فيما بات الانقسام داخل المجتمع الاستيطانيّ الصهيونيّ يتجذّر، وأن لا عودة لعهده السابق، وهي حقيقة يؤكّدها غالبيّة المراقبين والمختصّين بالشأن الإسرائيليّ، لا يستطيع أحد أن يستشرف المآلات النهائيّة لهذا الحدث الفريد وغير المسبوق، أي من الذي سينتصر، أم أنّ كلاهما خاسر لما سيتمخّض عن هذا الصراع من شروخ اجتماعيّة عميقة غير قابلة للشفاء.
فبعد تمرير قانون إلغاء حجّة المعقوليّة، الأسبوع الماضي، يخطّط قادة الاحتجاج الغاضبون، والمصدومون من تمرير هذا القانون، والّذين يشعرون بالهزيمة بعد أشهر من مظاهرات وإغلاق الشوارع، للانتقال إلى مرحلة أكثر خشونة لمواصلة مقاومة مخطّط نتنياهو وائتلافه الّذي يعتبرونه مشروعًا لـ"تحويل (إسرائيل) إلى دكتاتوريّة".
بالنسبة لمعسكر الاحتجاج المهدّد بتجريده من امتيازاته الّتي شيّدها على حساب دماء وأرواح الفلسطينيّين، يشكّل نجاح الانقلاب القضائيّ خطرًا وجوديًّا على نخب هذا المعسكر، وعلى (إسرائيل) كمجتمع ودولة.
ففي مقال طويل، كتبه مناحيم كلاين، مستشار الوفد الإسرائيليّ في المفاوضات الإسرائيليّة - الفلسطينيّة عام 2000، وهو باحث وأستاذ جامعيّ، ونشر في موقع 972mag اليساريّ بالإنجليزيّة، يقدّم قراءة سوسيولوجيّة لميزان القوى بين المعسكرين الاستعماريّين المتنازعين على هويّة (إسرائيل) ، وطبيعة مشروعهما الكولونياليّ، ويستعرض نقاط قوّة وضعف كلّ منهما، والقدرة التجنيديّة لكلّ منهما، لدعم خطّته السياسيّة والأيديولوجيّة.
اقرأ أيضًا: هل يقع انقلاب عسكري في (إسرائيل) ؟
اقرأ أيضًا: الأزمة الإسرائيلية الداخلية.. بوصفها صراعًا على المكسب الاستعماري
وعنوان المقال يقول: "في الحرب الأهليّة الوشيكة ستكون اليد العليا لليمين". وفي الجزء الأخير من المقال يعتقد أنّه تقريبًا من المستحيل أن ينتصر المعارضون في هذه الحرب الأهليّة من دون مشاركة المواطنين العرب الفلسطينيّون في (إسرائيل)، دون أن يخوض بالتفاصيل، أو في البدائل السياسيّة الّتي يطمح إليها المواطنون الفلسطينيّون في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ٤٨.
ويبدأ كلاين مقاله بالقول إنّ "الحرب الأهليّة الّتي تختمر، والّتي نشهدها الآن، ليست مشهدًا عابرًا، إنّما عمليّة طويلة. هذا النزاع الأهليّ ما زال في طوره الأوّل، المعسكران المتخاصمان قيد التشكّل والتبلور".
ويمضي في التشخيص أنّ "الثوريّون في اليمين يعتمدون على أغلبيّتهم العدديّة في الكنيست فقط عندما يتعلّق الأمر بتمرير تشريع. ولكن في حرب أهليّة فعليّة، سيحتاجون إلى جمهور أوسع ومجنّد. وتتكوّن قاعدتهم الأساسيّة من المتديّنين، من كافّة الأطياف ابتداء من الحريديّين إلى التيّار الدينيّ القوميّ. إنّ هذا الجمهور المتديّن، شديد التماسك، وهو منظّم حول دور العبادة، وفي أحياء منفصلة وحركات شبابيّة، ونظام تعليم تحكمه أيديولوجيّة دينيّة وقوميّة شديدة التطرّف". لكنّه يتدارك قائلًا إنّ الجماعة المتديّنة صغيرة بحيث لا تستطيع وحدها الانتصار في حرب أهليّة، وستضطرّ إلى الاستعانة بالقاعدة التقليديّة لرئيس الحكومة نتنياهو وحزب الليكود، وهذه القاعدة مؤلّفة من طبقة وسطى وشرقيّين، وهو جمهور مهمّش من قبل النخبة الأشكنازيّة، ومستثنى من الجماعات المتديّنة المغلقة، ويعيشون غالبًا في الأطراف وبعيدًا عن منافع السلطة.
ويحظى نتنياهو والليكود بالتأييد والدعم من هؤلاء، وذلك بفضل حملة المظلوميّة لخلق جماعة متخيّلة تتعرّض لملاحقة وتمييز منهجيّ، مع أنّ الليكود كان في الحكم منذ عقود. ويأتي تأثير هذه الحملة في السوشيال ميديا الّتي تعرض الأمر وكأنّه صراع طبقيّ تخوضه نخبة جديدة ضدّ نخبة قديمة.
وينتقل الكاتب إلى المعسكر الآخر المعارض، متحدّثًا عن قاعدته المجتمعيّة والفكريّة، فيكتب تحت عنوان فرعيّ "سياسات هويّة مقابل خطاب حقوق"، أنّه على النقيض من معسكر الحكومة، فإنّ معظم المعارضين لخطّة "الإصلاح القضائيّ"، تطغى عليهم التوجّهات الفرديّة أكثر من الجماعيّة، ويقضون معظم أوقاتهم في دوائر عائلاتهم النوويّة (الأسرة)، ومع أصدقائهم المقرّبين، وزملائهم في العمل. إنّ جماعتهم المتخيّلة هي غالبًا الوحدة العسكريّة الّتي خدموا فيها. ولذلك، ليس صدفة أنّ أكثر المنظّمات شهرة الّتي تمثّل معارضي خطّة الحكومة، تدور حول الجانب العسكريّ، ويلي ذلك المنظّمات الّتي تستند إلى الموقع الجغرافيّ والمهنة، والمستوى الثقافيّ. هذا يعني أنّ قاعدة معسكر الاحتجاج أكثر شرذمة من المعسكر الآخر، وأنّ الرجال والنساء لا يعيشون في مجتمعات عضويّة. ولذلك، يحاول المعارضون توطيد قاعدتهم الاجتماعيّة من خلال مجموعات "واتساب"، والمحاضرات عبر تطبيق "زووم"، وبشكل خاصّ عبر المظاهرات. وتساعد المظاهرات في البناء والمحافظة على معسكرهم، إمّا من خلال تجاهل القضايا الّتي يمكن أن تفتّت وحدة جمهورهم، أو من خلال توفير مساحة للتعبير عن الأسباب المختلفة لمعارضة خطّة الحكومة. ولذلك، فإنّ إصرارهم على النزول إلى الشوارع كلّ يوم سبت ليس بهدف الضغط على الحكومة فحسب، بل أيضًا من أجل المحافظة على الزخم والاستمراريّة ووحدة المعسكر.
ويواصل كلاين تحليله بأنّ "في حين يبرّر معسكر الحكومة خطّة إصلاح القضاء بالحاجة إلى الحفاظ على الهويّة اليهوديّة للدولة، وممارسة الفوقيّة اليهوديّة على غير اليهود بين البحر والنهر، فإنّ المعارضين يتحدّثون عن الحقوق الفرديّة في إطار الهويّة الليبراليّة الديمقراطيّة، الّتي يريدون حمايتها. ولهذا، يواجه خطاب المعارضة مشكلة مزدوجة، ذلك أنّ قادته يمتنعون عن رسم حدود الجماعة الّتي يتحدّثون باسمها؛ هل يشمل الفلسطينيّين؟ وماذا يعنون عندما يتحدّثون عن الدولة اليهوديّة؟ ليس لديهم جواب على هذه الأسئلة".
وفي تطرّقه لفلسطينيي الأراضي المحتلة عام ٤٨، تحت عنوان "فرص المعارضة"، يقول إنّ "هؤلاء (المواطنون الفلسطينيّون) يعون تمامًا بأنّهم سيكونون أوّل المستهدفين من قبل مؤيّدي خطّة الإصلاح، لأنّ هويّتهم مختلفة، بل متناقضة، عن الرؤية اليهوديّة. ولكنّهم يقفون جانبًا، يراقبون المعسكرين، بعضهم يشارك، ولكنّهم كمجموعة ليسوا جزءًا من حركة الاحتجاج".
ويفسّر هذا الامتناع بأنّ الفلسطينيّين في (إسرائيل) متردّدون في المشاركة في جماعة متخيّلة يهيمن عليها الطابع العسكريّ، كما أنّه لا توجد ثقافة إسرائيليّة يشارك اليهود فيها مع نضالات المواطنين العرب. وفي الوقت ذاته لا ينظّم الفلسطينيّون احتجاجاتهم الخاصّة ضدّ الحكومة، لشرح أسبابهم الخاصّة لرفض خطّة الحكومة. ويعتقد أنّه "من دون مشاركة الفلسطينيّين في (إسرائيل) ، يمكن القول إنّ إمكانيّة الانتصار في هذه الحرب تقارب المستحيل. وسيكون صعبًا على المعارضين إشراك المواطنين العرب من دون تطوير خطاب هويّة مختلف عن خطاب هويّة المعسكر القوميّ الدينيّ المتطرّف، ومن دون التعاطف الحقيقيّ، وتبنّي موقف غير استعلائيّ تجاه هؤلاء المصوّتين".
ويوجّه كلاين انتقادًا إلى معسكر الاحتجاج، قائلًا إنّه فشل في تقديم خطاب يتحدّى خطاب اليمين المتطرّف، إذ فقط يتمتم أحيانًا حول إدارة الصراع مع الفلسطينيّين والعودة إلى وهم "دولة يهوديّة وديمقراطيّة" الّتي تحتجز الفلسطينيّين تحت نظام عسكريّ وحشيّ.
وفي نهاية المقال، يتطرّق كلاين إلى العلاقة بين الجيش والأمّة. ويعتقد أنّ التحدّي الآخر أمام المعارضة هو إزالة التماثل بين الجيش والأمّة. ويختم بأنّه "حتّى الآن، نظر إلى ظاهرة الرفض في أوساط الجيش بمثابة انفصال الجماعة القوميّة الإسرائيليّة. ولكنّنا في الأشهر الأخيرة شهدنا تزايد عدد الإسرائيليّين الّذين بدأوا يتعاملون مع الجيش كآليّة تقنيّة حكوميّة، وليس كقيمة بحدّ ذاتها أو قيمة عليا. إنّ هذا التحوّل التدريجيّ الّذي يحدث داخل المجتمع الإسرائيليّ جوهريّ، أي من مجتمع حربيّ ومتشكّك، وذي نزعة عسكريّة، ويشتهي السيطرة على الفلسطينيّين، إلى جيش يؤيّد السلام والعدالة".
يبقى هذا الحدث الكبير داخل (إسرائيل) محطّ اهتمام وجذب وإثارة لما سيكون له من انعكاسات جوهريّة على الداخل المجتمع الاستيطانيّ، وعلى النضال التحرّريّ الفلسطينيّ.
وعلى المستوى الفلسطينيّ، سواء العام أو الخاصّ بكلّ موقع جغرافيّ، لا يغدو التفاعل حتّى الآن مع هذا الحدث سوى فيض من الكتابات والتحليلات والدراسات، بل حتّى هذه التحليلات والدراسات لا تزال خالية تقريبًا من تخيّل سيناريوهات حول كيف سنردّ، كفلسطينيّين وكعرب، إذا ما انتصر أيّ من المعسكرين، لأنّ ماكنة القتل والاستعمار لن تتوقّف، بل يخطّط الائتلاف الحكوميّ الأكثر فاشيّة في الاندفاع أكثر وبوحشيّة أكبر في مشروعه العدوانيّ. طبعًا، من الحكمة عدم إقحام أنفسنا (من الخارج، ومن الداخل) في صراعهم الداخليّ، الّذي قد يصبّ في مصلحة إضعاف هذا المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ، كونه يضعف التماسك الداخليّ فيه، ويكشف مجدّدًا الأيديولوجيّة الصهيونيّة المنغلقة، ولكن ليس معقولًا أن نظلّ قاصرين عن الاجتهاد وبلورة حركتنا الشعبيّة الكفاحيّة التحرّريّة، لأجل حماية أنفسنا ممّا هو أسوأ، ومن أجل الإفادة من ذلك من أجل إنهاء الأبرتهايد، وتحقيق التحرّر والعدالة والمساواة.