فلسطين أون لاين

تقرير زراعة "المفاصل" في غزة.. عجلة الحياة المتوقفة لمئات المرضى تعود للدوران

...
تصوير/ رمضان الأغا
غزة/ يحيى اليعقوبي:

أقعدتهم آلام المفاصل عن أعمالهم، وجعلتها شاقة لمن تحامل على نفسه، فكانت عملية زراعة المفاصل الصناعية في قطاع غزة أشبه بـ"إعادة عجلة الحياة للدوران" لمئات المرضى، بعد أن أوقفها الألم ولم تسكنها العقاقير الطبية، حتى صارت أقصى أحلامهم القيام بأشياء بسيطة، "كالسجود في أثناء الصلاة" و"تناول الطعام على الأرض".

تفتحتْ عينا أدهم محمد أبو خضرة (52 عامًا) كوردة ربيع يقفز الفرح منها، وهو يتمدد على السرير الطبي عقب زوال أثر المخدر (البنج) في قسم العظام بمجمع ناصر الطبي بمحافظة خان يونس، بعدما أجرى عملية زراعة مفصل صناعي، أجراها له فريق طبي من الداخل المحتل بمشاركة أطباء من قسم العظام بالمستشفى للعمل على توطين الخدمة وتوسيع انتشارها.

عايشتْ صحيفة "فلسطين" مراحل إجرائها داخل المشفى بقضاء عدة ساعات في قسم العظام ومرافقة الأطباء والممرضين، استمعت خلالها لروايات وقصص المرضى مع المعاناة ونقلتها لكم في تقريرها هذا.

على مدار سبع سنوات عانى أبو خضرة خشونة بالمفاصل بأعلى درجة، حرمته السجود فكانت أمنيته "أن تلامس جبهته الأرض" فمعظم صلاته كان يؤديها على كرسي بلاستيكي.

"كنت أقاوم الألم، وأحاول المشي والذهاب لعملي شمال غزة، فبدأت أعاني خشونة المفاصل بقدمي اليسرى، وبسبب اعتمادي على قدمي اليمنى تأثرت هي الأخرى، فأجريت عمليةً اليوم بقدمي اليمنى، وبعد مدة سأجري عملية أخرى بالقدم اليسرى لأعود لممارسة حياتي طبيعية" نظرات الأمل تتلألأ من عينيه، ومن صوته تنطلق كلمات الفرح وهو يتحدث لصحيفة "فلسطين". 

اقرأ أيضاً: طبيبة بعمر 102 عام تكشف سر الحياة الصحية

تطل الفرحة من عينيه، وترافق نبرات صوته وهو يتجه بنظره نحو زوجته: "الآن نتأمل أن نخرج للتنزه والسير معًا، لأنها حُرمت أشياء كثيرة بسبب ألمي، وظُلمت معي".

"نفسي أسجد وأقعد زي الناس أربع رجلي" بملامح شوق خرجت تلك الكلمات من فم أبو خضرة.

انتظار وترقب

في غرفة مجاورة كانت علامات التوتر تتلاعب بقلب الشاب "يونس" وهو يتحرك جيئة وذهابًا منتظرًا على أحر من الجمر خروج والده رائد عبد الرازق (52 عامًا) من غرفة عمليات الجراحة، الذي يجري له الأطباء عملية زراعة مفصل بمنطقة الحوض.

منذ عامين ووالده يبحث عن حلول طبية غير الزراعة لتخفيف آلامه وتسكينها، حتى اقتنع أن الحل الأمثل هو إجراء عملية جراحية، فأجرى قبل أشهر عملية زراعة مفصل فخذ ويومها كان خائفًا، أما اليوم فكان يسابق الزمن لإجرائها، يستحضر صورة والده قبل دخول غرفة العمليات: "كان متحمسًا لإجراء العملية الثانية أكثر من الأولى، لأنه أدرك أنها ستنهي آلامه".

لم تكن معاناة والده الذي يعمل موظفا حكوميا بسيطة، فقد كان الألم يرافقه في ذهابه وعودته من العمل، إضافة لصعوبة المشي وحرمانه كحال سابقيه من الجلوس على الأرض والصلاة، "نصف العائلة كانت على الأرض والنصف الآخر على الطاولة مع أبي" بهذا يأمل أن تجتمع العائلة على مائدة واحدة.

داخل قسم الكسور، لم يفق الشاب إحسان محيسن الذي وصل قبل دقائق من أثر المخدر (البنج) بعد إجرائه عملية "منظار" للركبة، وبقربه تجمع إخوته حوله. والده لم يتوقف عن تمرير يديه الحانيتين على رأس نجله والدعاء له.

يعمل "إحسان" سائق شاحنة، وبسبب آلام المفصل واجه معاناة كبيرة في أثناء القيادة، فتعطل عن عمله، وفي أيام عديدة لم يقوَ فيها على التحامل على قدمه، يقول شقيقه رائد لصحيفة "فلسطين" وهو يسند ظهره للحائط ويراقب حالة شقيقه: "في بعض الأحيان كان يتناول مسكنات حتى يذهب الألم، وبحثنا فوجدنا هناك نافذة أمل بإجراء العملية".

اختصرت العملية مسافة معاناة كانت العائلة ستدفعها لو أجرتها خارج القطاع، يوضح: "الحقيقة أن هذه العملية مكلفة جدًا، ونحن لا نملك ثمنها، فأجريناها مجانًا على التأمين الصحي، ووفرت علينا معاناة ومجهود سفر وتكاليف، وهو الآن بين أهله والجميع يقف حوله"، شاكرا وزارة الصحة على ما بذلته.

طواقم طبية محلية

لم يكن العامل المادي هو الدافع الوحيد لإجراء العملية، فبحثت العائلة عن الطاقم المحلي الذي يجري العمليات ويترأسه الدكتور غسان أبو زهري، و"وجدت نجاحًا باهرًا حققه مع الحالات السابقة" كما يقر شقيقه، وقد شُفيت وعادت لممارسة حياتها الطبيعية، موجهًا رسالة للطواقم الطبية خرجت من قلبه: "أتمنى مزيدًا من التقدم لها، فهذا التطوير لم نكن نراه سابقًا بإجراء عمليات نوعية".

بجوار السرير كان الحكيم مظفر عدوان يقرأ العلامات الحيوية الظاهرة على الشاشة، محاولاً الاطمئنان على صحة المريض، يقول وهو يتأبط رزمة أوراق أسفل كتفه لصحيفة "فلسطين": "نقيس العلامات الحيوية للمريض بعد خروجه من العمليات، فإذا كان وضعه مستقرًا من ناحية النبض والأوكسجين، وعدم وجود نزيف، يبقى ثلاث ساعات تحت الرعاية حتى الإفاقة التامة، وقد تستدعي بعض الحالات المبيت ليوم أو يومين حسب الحالة".

يتكئ رأس الحاجة أمينة حلاوين (73 عامًا) على ذراعيها في غرفة في نهاية القسم، يشقُ الفرح طريقًا بين قسماتِ وجهها وصوتها الذي يمتلئ بالشوق للحظة تتمنى تحققها رغم وجود بنات لها وزوجات أبناء يتجمعون حولها، تعبر عنها بعفوية: "نفسي أمشي، بدي أخدم الحاج وأشيله (أعتني به) هدي أمنيتي بالدنيا كلها".

جاءت الحاجة حلاوين للمشفى على كرسي متحرك فهي لا تتحرك إلا بها، أو من خلال الوكر (جهاز مساعد مشي متدرج) تحمل ألما يرافقها منذ أن كان عمرها 40 عامًا. أجرت قبل أشهر عملية زراعة للمفصل في القدم اليمنى و أول أمس عملية زراعة بالقدم اليسرى، تتخيل نفسها بعد ثلاثة أشهر من الآن: "إن شاء الله أقدر أمشي بدون كرسي متحرك أو ووكر وأخدم زوجي".

جسور تواصل

الساعة الثالثة مساءً، خرج الطبيب الفلسطيني من الداخل المحتل محمد خطيب من غرفة العمليات بعد عدة ساعات متواصلة أجرى خلالها نحو عشر عمليات، تملأ بقع دماء من آثار العمليات ملابسه الطبية، فردت ملامحه ابتسامة عريضة حينما جلس على أحد المقاعد، كمن يعود من معركة الانتصار فيها فرحته بتسكين آلام المرضى.

كل شهر يزور الطبيبان محمد الخطيب ومصطفى ياسين ووفد مرافق لهما قطاع غزة، لإجراء نحو عشر عمليات في يوم واحد، ويمدان جسور التواصل بين غزة والداخل المحتل مؤكدين أن حواجز الجغرافيا لم تمنع أبناء الشعب الواحد من التلاحم وتقاسم الآلام والهم.

"نحن شعب واحد، فألمنا واحد وهمكم همنا، نشعر أن قدومنا لغزة واجب وعزة، وكرامة من المولى أنه سمح لنا بالقدوم وتخفيف أوجاع الناس" كانت تعابيره هنا خارجة عن إمكانية الوصف، فقد امتزجت بها كمية مشاعر وتجمعت فيها كل خصال الحب وهو يتحدث لصحيفة "فلسطين".

تشعر بالتعب يفرض نفسه على ملامح وجهه، والأرقُ جاثم على عيني الطبيب الخطيب المتخصص في تغيير مفاصل الركبة من بريطانيا، بكلمات مليئة بالحب لغزة قائلاً: "نقوم بإجراء عمليات مجانية، بل ندفع تكاليف قدومنا، ونحن سعداء بذلك والهدف ابتغاء مرضاة المولى عز وجل".

وأضاف: "نأتي كل شهر في يوم واحد لإجراء عدة عمليات، فنتعطل عن أعمالنا ونغلق عياداتنا لمدة يومين لأجل القدوم لغزة، وأكثر شيء يسعدني رؤية الطواقم المحلية بغزة تقوم بإجراء عمليات، وحدها وهذا يخفف الأعباء عنا".

ويرى أن الطاقم المحلي في غزة تقدم خلال عدة سنوات ويجري عمليات بشكل مستقل وهذا ما يبعث السعادة في قلبه.

وتعد عمليات تغيير المفاصل من "العمليات الجراحية الكبرى"، لكن الخطيب المتمرس على إجرائها يقوم بعمل نحو 20 عملية جراحية بالداخل المحتل، وخلال يوم واحد حينما يأتي لغزة يقوم بإجراء نحو 10 عمليات، وهذا يعده "إنجازًا"، فضلا عن اتصاله الدائم مع الطواقم ومتابعته للمرضى.

ومن الصعوبات التي تواجه الطاقم الفلسطيني من الداخل المحتل، تجميع التبرعات وشراء المفاصل بسبب تكلفتها الكبيرة ونقل المعدات لمستشفيات غزة، ورغم ذلك يتبرع أهل الداخل "بسخاء" لأجل مرضى غزة.

230 عملية

وبحسب إفادة مدير مستشفى الياسين للجراحات بمجمع ناصر الطبي بخان يونس د. ناهض أبو طعيمة الذي شاركنا الحديث وحضر لمتابعة سير العمليات، فإن زراعة المفاصل الصناعية بدأت بالمستشفى عام 2019 عن طريق وفد من "جمعية أطباء من أجل حقوق الإنسان" في الداخل المحتل الذي يقوم بزراعة مفصل الفخذ والركبة بمشاركة وفد محلي من أقسام العظام جرى تدريبه على إجراء العمليات بنفس الكفاءة، إذ بلغ عدد العمليات بالمجمع حتى الآن نحو 230 عملية زراعة مفاصل.

ورغم عدد العمليات الكبير فإن الاحتياج كبير، كما يؤكد أبو طعيمة لصحيفة "فلسطين"، نتيجة عدم توافر المستلزمات اللازمة، وخاصة المفاصل الصناعية نفسها، ما اضطر المشفى لتحويل نحو 250 حالة لزراعة المفاصل بالخارج، إضافة لوجود مئات المرضى على قوائم الانتظار، بسبب ارتفاع تكلفة الخدمة، فثمن المفصل الواحد يبلغ 1700 دولار يتم إحضاره مع الوفد الزائر.

وأثنى على دور أطباء الداخل المحتل، ولا سيما الطبيبين ياسين وخطيب، اللذين يداومان شهريا على القدوم لغزة لإجراء عمليات جراحية، وباتا يتعاملان مع الطاقم الطبي بالمجمع كأنهم "جسد واحد" فضلا عن مساهمتهما بتطوير تدريب الفريق المحلي وتوطين الخدمة بالمجمع.

وأوضح أن زيارة الطبيبين ساهمت في تخفيف آلام المرضى وعودة عجلة حياتهم للدوران من جديد.

يشار إلى أن مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة أجرى عملية جراحية مؤخرًا لزراعة المفاصل الصناعية على يد فريق محلي، وذلك في إطار سعي الوزارة لتوسيع الخدمة في مستشفياتها في جميع المحافظات.