فلسطين أون لاين

رفضا التخلي عن رفيقهما المصاب واستشهدوا معًا

تقرير منتصر ونور الدين.. ملحمة وفاء وطنية في ساحة القتال

...
الشهداء الأصدقاء الثلاثة
نابلس - غزة/ يحيى اليعقوبي:

كانوا في سيارتهم عندما فاجأهم جيش الاحتلال. نزل سعد الخراز (43 عامًا) لمواجهة الجنود، وأُصيب بجراح. على الفور تحرك نحوه صديقاه نور الدين العارضة (32 عامًا) ومنتصر سلامة (33 عامًا)، اللذان كانا جالسين في السيارة. رفضا ترك رفيقهما المصاب، وظلا يطلقان النار نحو الجنود لحمايته والتغطية عليه حتى يتمكن من العودة للمركبة.

لكن المواجهة لم تنتهِ بعد، فجأة هاجمتهم قوة أخرى من اتجاه آخر، وبدأت معركة ضارية جديدة. اشتبك الأصدقاء الثلاثة بكل قوتهم من نقطة صفر، فجسدوا ملحمة جديدة من الوفاء والشجاعة في قلب ساحة المعركة، إلى أن ارتقوا جميعًا في اللحظة نفسها.

نقل شقيق نور الدين، محمود العارضة، عن طريق شهود عيان تفاصيل الاشتباك قرب مدخل ما يسمى "الحي السامري" على قمة جبل "جرزيم" في مدينة نابلس بالضفة الغربية صباح الثلاثاء الماضي.

اقرأ أيضاً: "الصحة" تعلن أسماء شهداء عملية الاغتيال بنابلس صباح اليوم

أبدى فخره بأخيه وأصدقائه، قائلا: "هذه بطولة ترفع الرأس. أوجعوهم من نقطة صفر، وأوقعوا في صفوف الجنود خسائر، كان أخي يقف خلف عمود كهرباء ويرتدي ملابس سوداء، وهو يطلق النار تجاه الجنود".

كبقية أبناء نابلس، تابع العارضة أحداث الاشتباك حتى وصلت عقاربُ الساعة في دورانها إلى العاشرة والنصف صباحًا، كانت تلك اللحظات حاسمة، فهواجس الشك بدأت تتسلل إلى داخله بعد أن حاول الاتصال بشقيقه "نور الدين" ولم يجد ردًا من هاتفه، وبالتوازي اتصل بصديقه المقرب "منتصر" لكن النتيجة كانت مشابهة: الهاتف مغلق!

ثلاث علامات

حذاء وخاتم ومفاتيح شخصية ملقاة على الأرض بين إطار صورة نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، كانت ثلاث علامات تعود لشقيقه حسمت الأمر للعارضة الذي ظلَّ في حيرة من أمره ينتظر تأكيد خبر الاستشهاد بعدما سحبت قوات الاحتلال جثامين الشهداء.

"لم نتوقع أن ينفذ أخي عملية مقاومة، ولم نكن نعلم أنه ضمن صفوف المقاومين، كنت أشاهده يخرج لمشاهدة اقتحامات جيش الاحتلال، ولم أتخيل أن تصل به المرحلة أن يحمل البندقية بنفسه"، بكلمات غلفتها نبرة فخر يتحدث محمود العارضة لصحيفة "فلسطين" عبر الهاتف.

كما تفاجأ بمقاومة شقيقه، تفاجأ بوجوده مع الشهيد منتصر سلامة، فالأخير لديه محال لبيع الهواتف بجوار بيتهم، ولم تتجاوز العلاقة التي شاهدها حدود الجيرة التي كان يعرف بها العارضة، "كنت أراه يجلس في محله، فتنفيذ عمل مقاوم يعني أن الصداقة كانت كبيرة بينهما".

قبل خمس سنوات توفي والد الشهيد العارضة نتيجة مضاعفات مرض القلب، والشهيد يعمل بمجال الحدادة، عمل بمستوطنة إسرائيلية قريبة من نابلس، وبسبب إعدام قوات الاحتلال لأحد الشبان داخلها ترك العمل، واتجه لورش الحدادة بمدينته، وهو متزوج ولديه طفلة رضيع "ريتال" بعمر ثمانية أشهر.

عن صفاته، ترافق إجابته ابتسامة تدفقت من قلبه: "كان إنسانًا رائعًا، ضحوكًا، لا يحب جرح الآخرين، وسيم يهتم بأناقته، لديه سيارة وبيت يعيش حياة كريمة، وبعد امتلاكهم لجأ للعمل الوطني لأن طموحه كبير، وكان طلبه الشهادة".

من عائلة قدمت شهداء وأسرى وجرحى، سطع "نور الدين" وتلألأ اسمه في قائمة، يضعها شقيقه "محمود" وسام شرف على صدره مفتخرًا به وبانتمائه لوطنه فهذا "الحب يجري في دمائهم وشرايينهم أبًا عن جد"، فاستشهد عمه في ستينيات القرن الماضي، و"خالد" ابن عمه في الثمانينيات، ومطلع انتفاضة الأقصى 2000 استشهد ابن عمه "زاهي".

رغم أن الشهيد العارضة أخفى عن عائلته عمله المقاوم، فإن ردة فعله في الدفاع عن المقاومة في مجالس عائلته نبهت شقيقه لوجود شيء "أصبحت من يومها أخشى عليه، حتى أنني راقبته لأتأكد، وواضح أنه اتبع إجراءات أمنية بحيث لم أعرف أنا به".

بهجت ينتظر والده

لحظة وقوع الاشتباكات التي دوى صداها وأخبارها لداخل المدينة ووصلت لبهجت سلامة والد منتصر (33 عامًا)، ترحم على أرواح الشهداء، وانطلق لمصنعه (أقمشة) مع اقتراب الساعة من التاسعة صباحًا، حتى أنه لم ينتبه لصورة انتشرت على مواقع التواصل لنجله، إلى أن بدأت تتوارد أسماء الشهداء، وبدأت اتصالات الأصدقاء والأقارب تنهال عليه، ما دفعه للشك بحدوث شيء يخصه، حتى وقف أمام صدمة استشهاد ابنه البكر.

في صوته حسرة وهو يحاول التماسك على فقد نجله لصحيفة "فلسطين" قائلاً في غصة تعلق بحلقه: "منتصر شاب ملتزم، لديه محل هواتف فتحه بشكل منفصل حتى يؤسس مشروعه المستقبلي، لم أعلم أي شيء عن عمله المقاوم، فقد أخفاه تمامًا عنا، رغم الحزن فإننا راضون بقضاء الله، وسائرون على الطريق".

حتى الحادية عشرة مساء الاثنين، ظل منتصر يجلس في شقة والده، كلامه المعتاد، ابتسامته التي لا تفارقه، وسهرة اعتيادية لم تتخللها كلمات وداع أو مواساة تحفرها ذاكرة الأب المكلوم، جعلت المساء يمر طبيعيًا، ليحمل الصباحُ خبر الاستشهاد.

"وين أبويا!؟".. سؤال دار به الطفل بهجت (4 سنوات) بين أفراد عائلته، لعله يعثر عليه بين وجوه أعمامه وآخرين رآهم لأول مرة في بيتهم لا يعرف سبب قدومهم، باحثًا عن ملامح والده، وضحكته وحضنه الدافئ هو وشقيقته جنى (8 سنوات) وميرا (عامان)، فلم تجبه دمعة أمه التي لم يفهم سببها، ولم يدرك الطفل ما هي "الجنة" التي حدثوه أن والده انتقل إليها، فما زال ينتظر عودته على شرفة المنزل.