في ظل الحديث عن اللقاء الفلسطيني في أنقرة تمهيدًا للقاء أمناء الفصائل المزمع عقده قريبًا في القاهرة، تسود أجواء من الترقب والانتظار تغمرها مشاعر بين التفاؤل والتشاؤم في الشارع الفلسطيني لإنجاح هذه الجولات الحوارية على غرار جولات الحوار السابقة كانت آخرها في الجزائر قبل بضعة أشهر، ولم تتكلل بالنجاح، وإذا ما سألنا عن الأسباب التي تعيق مسار المصالحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني، ستفتح الباب للنقاش على مصرعيه بالعودة إلى نقطة الصفر، وقد يحتاج الى مجلدات لتفصيلها، واختصارًا، يمكن وضع الأصبع على أهم سبب، وهو انعدام الثقة، أي أن السلطة أصبحت فاقدةً للمصداقية لدى عامة الجمهور الفلسطيني، وقد ظهرت هذه الصورة بوضوح في المرحلة الأخيرة في أثناء أحداث الضفة، بتخليها عن واجبها الوطني إزاء شعبها، الذي تلقى أكبر طعنة، بسبب تواطؤها العلني مع الاحتلال عبر التنسيق الأمني، والاعتقالات السياسية التي تجريها بالتوازي مع الاحتلال، لما تشنه من حملة اعتقالات والمداهمات يومية بحق المقاومين والنشطاء.
فما نُقل عبر وسائل الإعلام عن فحوى اجتماع أنقرة برعاية الرئيس التركي، طيب أردوغان أن رئيس السلطة محمود عباس، طرح على رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، خلال لقائهما رؤية سياسية تستند إلى الشرعية الدولية، وأن على الجميع الانضمام لمنظمة التحرير، والالتزام بخيار المقاومة السلمية وأن لا سلاح غير سلاح السلطة. السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا آثار عباس قضية سلاح المقاومة في هذا الوقت بالذات؟ هل هو من باب تمسكه فعلًا بالشرعية الدولية، أم من باب الشرعية الوطنية؟
للعلم أن ما يخص قضية الشرعية الدولية، فإن المقاومة بشتى أشكالها هي حق طبيعي كفله القانون الدولي ،على رأسها اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 للتحرر من الاحتلال، أما ما يخص الحالة الفلسطينية الداخلية فهي (الرئاسية والتشريعية والقضائية، وحتى المجلس الوطني الفلسطيني ومعه منظمة التحرير بحاجة إلى تجديد الشرعيات)، وأما على مستوى رأي الجمهور الفلسطيني فلنأخذ آخر الاستطلاع فصلي لمركز خليل الشقاقي (المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية بإجراء استطلاع للرأي العام الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وذلك في الفترة ما بين 7-11 حزيران/يونيو 2023 )، وقد عبرت نتائج المستطلعين عن استيائهم من السلطة بأنها أصبحت عبئًا على الشعب الفلسطيني (63٪ مقابل 33٪)، وقد أعربوا عن عدم رضاهم عن أداء رئيسها محمود عباس ( 80٪ مقابل 17٪)، علاوة على ذلك، يعتقد غالبية الجمهور أنه من مصلحة الشعب الفلسطيني تفكك السلطة (50٪ مقابل 46٪)، وأن بقاءها في مصلحة (إسرائيل) (63٪ مقابل 34٪). ويطالبون بإنشاء منظمات مثل "عرين الأسود" التي لا تخضع لسيطرة السلطة (71٪ مقابل 23٪) ويعارضون دعوة السلطة لنزع سلاح هذه المنظمات (80٪ مقابل 16٪)، كما يعارضون فكرة الدولتين (70٪ مقابل 28٪) ويعتقدون أنها غير قابلة للتحقيق (71٪ مقابل 28٪)، ويروا (53% مقابل 47%) العودة لانتفاضة مسلحة.
الواضح أن السلطة من جانبها تعمل بعكس الاتجاه، فبدلًا من توفير الحماية اللازمة للفلسطينيين بما تمتلكه من عدة وعتاد وتجهيزات ضخمة، إذ يقدر عدد منتسبيها بـ70 ألفًا، ولتوفير الحماية الضرورية لهم وإيجاد حياة كريمة لهم، تتقاعس عن هذا الدور الأخلاقي في مواجهة اعتداءات المستوطنين وإيقاف العدوان الصهيوني على مدن وقرى الضفة، إذ تقفل على نفسها مقراتها وتغمض عينها عما يحدث بجوارها وكأن الأمر لا يعنيها أو أنها تعد العدوان الصهيوني ضد شعب آخر في بلد آخر، وبعد إنهاء العملية العسكرية الصهيونية نجدها تخرج أجهزتها الأمنية بمختلف مسمياتها، بحجة بسط سيطرتها وإعادة النظام، كما حدث مؤخرًا في جنين، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حالة الضعف والهشاشة الداخلية لدى طرفي التعاون الأمني للسلطة والاحتلال معًا.
لا شك أن عباس يناقض نفسه بطرحه الامتثال للشرعية الدولية، وفيما يتعلق بالمقاومة، فكل الشرائع والقوانين الدولية لا تتعارض مع المقاومة بأي شكل من الأشكال، وإنما الذي يعترضها هو المخالف، وبناء على ذلك فإن جواب هنية لعباس كان في محله، لقوله: “أن حماس تستهدف الاحتلال وأنها غير معنية بمهاجمة السلطة أو إسقاطها، وهنا يكون رئيس الحركة قد وضع النقاط على الحروف ولكي لا تضع العقد في المنشار ومن ثم إثارة هذه القضية مرة أخرى، لأن الشعب الفلسطيني- كما تشير استطلاعات الرأي وما يجري على أرض الواقع بتواصل المقاومة- متمسكًا بحقه في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل المتاحة التي أقرتها الشرائع والقوانين الدولية، فلا يعقل أن يبقى صمت السلطة وتخاذلها مرهونًا بالمفاوضات العبثية، ولا يزال الشعب الفلسطيني يتحمل مساوئها ويدفع ثمن أخطائها.
هنا أطرح السؤال الآتي، لماذا رفض رئيس السلطة، محمود عباس، طلب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية في أثناء لقائهما الأخير في أنقرة، الإفراج العاجل عن المعتقلين السياسيين والمقاومين وربطه بالحوار في اجتماع الأمناء العامين؟ لا أعتقد أن تنجح أي تفاهمات عبر الحوارات الجارية الآن من دون وقف تام للاعتقالات السياسية التي تشنها أجهزة أمن السلطة هناك في الضفة، والحقيقة أن هذه السياسة التي تتبعها السلطة ضد أبناء شعبها من الشرفاء والمناضلين والمقاومين ليست وليدة اللحظة، بل هي عادة متبعة على مدار الثلاثة عقود السابقة، بناءً على التعاون والتنسيق الأمني مع الاحتلال، تحت ذريعة المفاوضات التي وصلت إلى طريق مسدود، ومنذ ذلك الحين أغلقت أبواب السياسة وأبقت أبواب الحراسة، وأصبحت السلطة أداة في يد الاحتلال لتعزيز أمن المستوطنين، وقد انكشفت على حقيقتها بلعبها الدور البديل عن الاحتلال، بل تعمل على خدمته أمنيًا وسياسيًا، فهي ماضية في التنازلات السياسية (الاكتفاء بـ22٪ من مساحة فلسطين التاريخية)، وكذلك الخدمة المجانية التي تؤديها للاحتلال بقمع العمل النقابي والصحفي، والحقوقي، والطلابي، والمقاومة والمعارضة على حد سواء، في محاولة لملئ حالة الفراغ الأمني المفقود لعامين متواصلين والتغطية على فشلها لكل برامجها السياسية والاقتصادية والإدارية والمالية، وترجع هذه الأمور إلى عدة أسباب هي:
1- أن السلطة وأجهزتها الأمنية لا تسيطر على أجزاء من الأراضي الواقعة تحت مسؤوليتها، بسبب اختراقات الاحتلال المتواصلة من المداهمات والاعتقالات والتصفيات والاستيلاء على الأراضي والممتلكات الفلسطينية دون رادع، لذا جاءت هبة الضفة برجالها وبمقاوميها للدفاع عن أنفسهم ضد اعتداءات المستوطنين وقوات الاحتلال، في ظل تواطؤ السلطة بالتعاون معه، فكما علمتنا التجارب السابقة للهبات والانتفاضات الفلسطينية، أنها كانت في أغلبها لا تنفجر لأسباب اقتصادية، وإنما لأسباب قومية ودينية ووطنية تخص القضية الفلسطينية وتلك المتعلقة بفقدان الثقة في القيادة المتواطئة، والدليل على ذلك أن الانفجار جاء من المناطق الشمالية من الضفة الغربية، مع التركيز على منطقة جنين، التي تتميز بالرفاهية الاقتصادية والازدهار، لكنها تأبى الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني.
2- إن شرعية السلطة في أدنى مستوياتها لدى الرأي العام الفلسطيني، عندما يُنظر إلى تمسكها بمحاربة المقاومة والتعاون الأمني المستمر في خدمة المحتل، ولا يخدمان أو يعززان المصلحة الفلسطينية.
3- عدم مقدرة السلطة على تحقيق أي اختراق في الملف الداخلي الفلسطيني، بإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة الوطنية، وتوحيد غزة والضفة ليكونوا يدًا واحدة ضد المخططات الصهيونية الساعية لتصفية القضية الفلسطينية بناءً على “صفقة العصر”، كما أن السلطة فشلت في تقديم برنامج سياسي للخروج من حالة الفراغ الدستوري بانتهاء شرعيتها منذ عام 2009، وأن إلغائها للإنتخابات في كل مرة دليل على ضعفها.
إن كل هذه المعطيات كفيلة لإثبات ضعف السلطة من الناحية الأمنية وتبحث عن مخارج لورطتها كدعوتها للقاءات مع الفصائل الفلسطينية للتستر على إخفاقاتها السياسية والأمنية، وأن كل ما تقوم به الآن من حملات واعتقالات سياسية ما هو إلا عملية ترقيع لثوبها، وحتى الترقيع في كثير من الحالات لا يستر العورات، والحقيقة أن فشل السلطة في احتواء المقاومة المسلحة والهبة الشعبية بشكل عام في الضفة، جعلها تستغل ملف المصالحة الآن كمخرج “طوارئ”، ولو كانت على شكل مسكنات مؤقتة لحفظ ماء الوجه بتعليق فشلها على شماعة الإنقسام وكأنه وليد اللحظة، فكم مرة عقدت اللقاءات بين الفصائل في أغلب عواصم الدنبا، والغريب أنه يحدث اختراقات لمعظم الملفات الأساسية، بدليل التوقيع عليها من الجميع، ولكن سرعان ما يتم التراجع عن تنفيذ بنودها، وأقرب مثال على ذلك اجتماع الأمناء العامون للفصائل قبل عام، وفيه تم الاتفاق على وقف التنسيق الأمني وإجراء انتخابات، ماذا فعلت السلطة من كل هذا؟ فقد ادعت وقف التنسيق مع الاحتلال مرات ومرات، ولا يزال قائمًا على قدم وساق بين الجانبين، وهنا تكمن مشكلة عدم الثقة، لأن رئيس السلطة بدأ لقاءه في أنقرة بوضع العقدة في المنشار بطرح نزع سلاح المقاومة، الذي يعد لدى الفصائل خطًا أحمر لا يجوز المساس به، لأن نزع سلاح المقاومة هو بمثابة تجريد الشعب الفلسطيني من حقه المشروع دوليًا بمقاومة الاحتلال، ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار السلطة عالة وعلة، فلا هي توفر الحماية لشعبها ولا هي تتركه يحمي نفسه بنفسه، وقد وصل إلى قناعة بأن السلطة عصا غليظة لقمعه.