لم يتجاوز ابني عبد الرحمن السنتين وبضعة أشهر من عمره حتى دأب على مخالفة أمه تدريجيًا في بعض الأمور الصغيرة التي تخص تفاصيل حياته، كأن يمسك الملعقة بنفسه، ويصر أن يأكل من طبقي مع أن نفس الطعام ونفس الطبق أمامه، يبادر أمه بكلمة لا إزاء أي محاولة لفرض قراراتها عليه، وقد ينفذ نفس ما طلبت منه بعد دقائق قليلة لكن باختياره ووفق إرادته ودون إملاءات خارجية.
منذ هذه السن الصغيرة يبدأ الإنسان رحلة الإدراك، والتمييز بين الأشياء، وبالتالي الاختيار واتخاذ القرارات. قد يبدو الأمر سهلا في بادئ الأمر كاختيار لعبة من المتجر أو لون بنطال أو شكل رسم على الـ(تي شيرت) أو نوع طعام تحبه، لكن الأمر ليس سهلا بالطبع عندما يكون مصيريا يتوقف عليه المستقبل وتُبنى عليه بقية الحياة، كالدراسة ونوع الاختصاص والعمل والسفر.
وقد يكون الأمر قدراً كالزواج فيصبح قرارك الأخير الذي اتخذته في حياتك، وغالبا ما ستكون القرارات الصغيرة من شأن الزوجة كأمور البيت ومدارس الأولاد، ودائرة العلاقات، ومواعيد نومك وصحوك.. أما أنت فستتفرغ للقرارات الكبيرة مثل حرب روسيا وأوكرانيا وانضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو، وسينصب برج مراقبة فوق حسابك الفيسبوكي، أكثر دقة من القبة الحديدية في رصد كل منشور وتعليق و(لايك) شارد أو وارد.
اقرأ أيضًا: نتائج الثانوية العامة.. نصر جديد في غزة
اقرأ أيضًا: نتائج الثانوية العامة.. بالعلم نقاوم
لنرجع قليلا إلى مرحلة ما بعد الثانوية العامة حيث اختيار تخصص الدراسة، في ظل سوق عمل بات متشبعا حد التخمة من كل التخصصات، وهنا تحضرني حادثة تعود لسنة ألفين وسبعة عندما كنت مقيما في القاهرة، ذهبت برفقة أحد الأصدقاء لتصليح ساعتي التي توقف نبضها عن الحركة فطبّت ساكتة، فتح غطاءها الساعاتي وتفحصها، ثم أخرج مطرقة صغيرة من دولاب قديم، وخلال ثوانٍ ضرب على مكان معين ضربة خفيفة فعادت الساعة تعمل من جديد، أخذتنا الدهشة أنا وصديقي من بساطة الأمر، فشكرته وسألته عن أجرة التصليح فقال لي: عشرة جنيهات..
أخذتنا الدهشة مرة أخرى، واستكثرنا المبلغ على ضربة خفيفة!
أخرج الساعاتي المطرقة وضرب الساعة مرة أخرى فتوقفت عن العمل، مدّ إلىّ المطرقة والساعة، وقال: اضرب حتى الصباح لن تعمل معك، ثم استطرد قائلا: أنا أخذت جنيها واحدا مقابل الضربة، وتسعة جنيهات لأن الضربة ضربة معلم!
فيا بني.. دعك من حيرتك، صحيح أن كل التخصصات موجودة، لكننا بحاجة إلى الاختصاصي المتميز صاحب ضربة المعلم في مجاله.