أسوأ ما تناقلته وسائل الإعلام في أثناء معركة جنين البطولية وبعدها هو مشهدٌ لعشرات الفلسطينيين يغادرون مخيم جنين على أنغام أنشودة التغريبة الفلسطينية، هذا المشهد أصابني بخيبة الأمل من وسائل الإعلام تلك، وطريقتها الساذجة في نقل معاناة الفلسطينيين. الشعب الفلسطيني ضحية، ويجب نقل معاناته للمجتمع الدولي وللجميع، وهذا صحيح، ولكنه شعب مقاوم، والمشهد البائس لا يعكس الواقع الفلسطيني الآن، ولا يشبه البتة هجرة الفلسطينيين عام 1948، فالذين خرجوا من المخيم عادوا إليه، ولا أحد يستطيع منعهم من ذلك، الذين كانوا يرفعون أيديهم لم يكونوا مجبرين على ذلك، وقد رأينا من رفع يديه ومن لم يرفعها، أي أنهم لم يكونوا مجبرين على ذلك. مشهد الإخراج والطرد الجماعي شهدناه عندما غادر الإسرائيليون قطاع غزة بالآلاف، وشهدنا الفرار المؤقت للإسرائيليين من مستوطنات غلاف غزة، فقد رأينا الكثير يفرون من المستوطنات عندما كانت المقاومة تدكها بالصواريخ ومدافع الهاون، ولذلك لا بد من التخلص من مشاهد الهوان المزيفة، وخاصة أن مخيم جنين ومدينتها سطرا قصة انتصار جديدة في تاريخ الثورة الفلسطينية، وما هُدم سيُعاد بناؤه، ولن تكون هناك أي عملية ترحيل للفلسطينيين بعد اليوم.
مما يصيبك أيضًا بالامتعاض قول البعض إن المقاومة صمدت ولكنها لم تنتصر، وأنا لا أعلم ماذا يعني الانتصار من وجهة نظرهم، هل يعني فقط طرد آخر جندي إسرائيلي من فلسطين، أو يعني قتل كل من دخل أرض المعركة من الأعداء؟ أنا أرى الكثير من دلائل الانتصار للمقاومة الفلسطينية في معركة مخيم جنين، أولها أن (إسرائيل) لم تحقق أي هدف عسكري أو سياسي لها، فجرائم القتل والهدم والتدمير ليست أهدافًا تذكر، ولا سيما أنها فقط تفجر المزيد من الغضب في الشعب الفلسطيني وتترجم إلى عمليات مقاومة، وهذا ما حدث بالفعل في أثناء الحملة العسكرية على جنين وبعدها، فقد نفذت كتائب القسام عدة عمليات نوعية ضد العدو الإسرائيلي وفي قلب عاصمته، ونشرت الذعر بين المستوطنين في الضفة الغربية، وما زال العدو ينتظر المزيد من عمليات كتائب القسام وغيرها من فصائل المقاومة، والعمليات الفردية أيضًا.
اقرأ أيضًا: جنين تتصدر المقاومة
اقرأ أيضًا: العصف المأكول وتهشيم معادلة الأمن الصهيوني
ومن دلائل الانتصار أن المحتل دخل جنين مكبلًا بمخاوفه من فتح جبهة غزة عليه، فالجيش الإسرائيلي حاول تجنب استفزاز المقاومة في قطاع غزة وكتائب عز الدين القسام، ولذلك عمل بكل جد على التقليل من الخسائر البشرية بين صفوف الفلسطينيين، وعندما اجتمع الخوف من استفزاز المقاومة في غزة مع بسالة المقاتلين في مخيم جنين ومدينتها لم يكن أمام الاحتلال سوى وقف حملته العسكرية -التي كان هدفها الأساسي اجتثاث المقاومة- والانسحاب مذمومًا مدحورًا.
ومن دلائل الانتصار الكبرى إفشال ما اتُّفق عليه في لقاءات العقبة وشرم الشيخ إلى الأبد، حيث كانت الحملة العسكرية الإسرائيلية على مخيم جنين هي ثاني محاولة جادة للعدو لتدمير المقاومة، وأعتقد أن العدو أدرك الآن أنه لن يستطيع إخضاع جنين ولا نابلس ولا أي منطقة تكون فيها المقاومة مستعدة لمواجهته، وخاصة مع اتساع الحاضنة الشعبية للمقاومة، ولذلك أقول إن المقاومة في غزة انتصرت في معركة جنين، وكذلك المقاومة في جنين انتصرت في المخيم والمدينة، أقول ذلك للأسباب التي ذكرتها، ولأن المقاومة الفلسطينية واحدة موحدة من رفح حتى جنين.