فلسطين أون لاين

​المحرر "حسان".. شهيد بلا موعد ووصية واجبة التنفيذ

...
تشييع جثمان الأسير المحرر "حسان" أمس (تصوير / محمود أبو حصيرة )
غزة - رنا الشرافي

صباح أمس، بدا وكأن الشمس قد غابت فيه، هو صباح خريفي حزين لدى الفلسطينيين وخاصة في بلدة المغراقة وسط قطاع غزة، استهل بدايته بعتمة غزت أرواح الأسرى المحررين في صفقة "وفاء الأحرار- 2011"، تلك العتمة التي سببها سقوط الورقة الثالثة من شجرة تلك العائلة الصابرة، حيث ارتقى المجاهد القسامي والأسير المحرر محمد حسان "أبو نضال" (61 عاماً) شهيداً.

هم بالفعل عائلة، كلما أصابها فرح أو ترح تداعوا كسائر أعضاء الجسد الواحد، وإذا التقوا في مكان مع جمع آخر، تراهم يحلقون حول بعضهم كما السوار حول المعصم، يدا واحدة وموقفا واحدا، يعتزون بصحبة بعضهم، بل وبمشاعر الأخوة التي جمعتهم ووحدتهم رغم ما ألم بهم من استشهاد المحررين مجدي حماد ومن ثم اغتيال مازن فقها، يلحق بهم "أبو نضال" الذي أمضى 25 عاما من عمره متنقلاً بين سجون الاحتلال.

عاشر من الأسرى الكثيرين، ومواقفه كانت حاضرة في أذهانهم، فحضروا إلى المسجد العمري الكبير وسط مدينة غزة للصلاة عليه قبل أن يحضر الجثمان.. انتظروه.. نعوه.. وبكوه.. بكته الروح قبل المقل، فحضرت الذكرى رغم مغيب الجسد.

الرعيل الأول

حشرجة صوته غلبت الحنجرة، وذبذبات الصوت خطفتها العبرة، توقف عن كلام لم يبدأ بعد، ليخبرنا صمته ما لم تبح به الشفتان.. إنه الأسير المحرر حمادة الديراوي، أحد محرري صفقة وفاء الأحرار ن عاشروا "أبو نضال" 11 عاماً في سجون الاحتلال، استجمع ما بقي في جسده من قوة ليخبرنا عن ابن الرعيل القسامي الأول "محمد حسان" الذي دخل سجون الاحتلال عام 1983 ليكون من أوائل القساميين الذين تبنوا فكرة الجهاد وقتلوا من المحتلين ما قتلوا ودخل سجون الاحتلال مبكراً.. يقول الديراوي.

أقدميته في الأسر جعلت منه الأب الروحي للأسرى، فكل أسير يشعر بالضجر أو الاختناق من حياة الأسر وهموم الأهل كان يلجأ "لأبي نضال"، تلك الشخصية الوطنية المناضلة والصابرة والمصبّرة، والتي كانت تحسن التعامل مع مختلف الظروف.

كنا نخجل من أنفسنا عندما نشكو له ظلم السجون وهو الذي أمضى السنوات الطوال قبلنا لم يلقنا مرة إلا وهو مبتسما، فنتساءل من أين يأتي بهذا الجلد وهذه الشجاعة؟ هل يمكن لمن أمضى كل هذه السنوات في السجن أن يكون متوازنا وقادراً على التعامل مع الجميع وفي مختلف الظروف بهذه الكفاءة ؟ يتساءل الديراوي.

ثم يتابع: "لم نكن نفهم كل ما يقوم به، وكنا أحياناً نعترض، ثم لم نلبث إلا أن نفهم أن ما قام به هو التصرف الصحيح في ذلك الموقف، فكان نبراسنا داخل سجون الاحتلال وشعلة القبس التي تهدينا السبيل".

ومن مناقب "أبي نضال" التي يذكرها الديراوي يقول: "في عام 2004 خضنا وجميع الأسرى إضرابا مفتوحا عن الطعام لمدة 18 يوماً وكان أبو نضال هو من يفاوض السجانين في مطالبنا، فكان يعمل بصمت وينجز في صمت".

ورغم ما حصل في قطاع غزة من أحداث في عام 2007 إلا أن "أبا نضال" كان "نجم حماس" الساطع والمحبوب وبقي على علاقات طيبة مع أسرى حركة فتح بل إنهم كانوا يحبونه، يؤكد الديراوي .

وعندما خرج في صفقة وفاء الأحرار بعد أن أمضى أكثر من 25 عاماً داخل سجون الاحتلال بقي "أبو نضال" وجهة جامعة لكل الأسرى، كيف لا وهو رفيق الدرب لعدنان الغول وتوفيق أبو نعيم وروحي مشتهى، تلك الأعلام في قيادة الحركة الأسيرة والتي تعيش على أرض غزة.

رفيق القبر

رحلته مع المرض العضال لم تكن طويلة، وفي الأسبوعين الأخيرين اضطر أن يلزم فراش المستشفى حتى لفظ أنفاسه فجر الأربعاء 27-9-2017، إلا أن وصيته كانت حاضرة وواجبة، فقد أوصى الشهيد "أبو نضال" بأن يتم دفنه بجوار رفيق الدرب الشهيد القائد القسامي عدنان الغول، وتلبية لرغبته تم دفنه في مقبرة الشيخ رضوان بجوار الشهيد الغول بعيداً عن منطقة سكناه في "المغراقة" وسط القطاع.

الشهيد "حسان" هو والد لشهيدين (عمار ونضال) كما ارتقى صهره شهيداً أيضاً، ليلحق بكوبة الشهداء مقبلاً غير مدبر.. لحظات وداعه كانت صعبة، والمشهد صامت والشفاه مطبقة، "وكأن على رؤوسهم الطير"، فعلاً، وكأن من ارتقى شهيداً هو شقيق أو قريب من الدرجة "الغالية".

"وجهه مشرق وهي من كرامات الشهداء" قالها الديراوي قبل أن يختم حديثه معنا " الآن صعب أن أتحدث عن مشاعر .. اعذروني "، ختام ٌ ليس كأي ختام، فهذا الختام للحديث معنا من المؤكد أنه فتح حواراً داخلياً لن ينتهي، واستعادة شريط الذكريات لكل لحظة عرف فيها "أبو نضال" وكل موقف وكل صورة وكل نبضة "أبوة" منحها للأسرى داخل السجن وخارجه، لتكون جنازته جامعة، والمسجد العمري بكل سعته لم يسع المشيعين الذين اضطروا للصلاة عليه في الشارع خارج أسوار المسجد المكتظ بالمشيعين.

رحل "أبو نضال".. بل لن نقول رحل، فهو ارتقى وارتقت معه هموم وطن محاصر، ومرضى لا يجدون الدواء ولا السفر، وأسرى مبعدين وموظفين لا يملكون قوت يومهم، وبحر بالكاد بقي فيه فسحة من أمل لروح قطاع غزة الأسير بين يدي الاحتلال الإسرائيلي والذي يصر على الحياة بكرامة وعنفوان وحرية.