فلسطين أون لاين

تقرير عمر أبو قطين.. شهيد فضّل صخور الوطن على الاستقرار في أمريكا

...
الشهيد عمر قطين وطفله عبد الله
غزة/ يحيى اليعقوبي:

في رسالة صوتية مختلطة بأنفاس متقطعة، أرسل الشاب عمر أبو قطين "جبارة"، رسالة تحذير لأصدقائه عبر مجموعة شباب بلدة ترمسعيا، تنبّه لهجوم المستوطنين على بلدتهم الهادئة، والتي تقع على التخوم الشمالية لمدينة رام الله.

في مدة لا تتجاوز أربع ثوانٍ، تعبّر تلك الكلمات القليلة عن عمق انتمائه للأرض، حيث فضّل العيش في ترمسعيا على الاستقرار في الولايات المتحدة كما يفعل الشباب الآخرون في القرية والعديد من العائلات الحاصلة على الجنسية الأمريكية.

ترك (باقر) يعمل على تفتيت الصخور لتسوية الأراضي الزراعية، وانطلق للدفاع عن بلدته في وجه هجمات المستوطنين التي أسفرت على مدار يومي الثلاثاء والأربعاء عن حرق 20 منزلًا و20 سيارة، وإصابة 12 فلسطينيًا، تعرضت جمال حجارة البيوت الصخرية البيضاء للتشويه وتلطخت بلون الرماد، وغطت السماء البلدة الهادئة بالدخان الأسمر.

لحظة صادمة

في ليلة الهجوم الأولى، كان عمر البالغ من العمر 27 عامًا يساعد الشباب في نقل المصابين إلى سيارات الإسعاف. وفي اليوم الثاني، أثناء قيامه بإسعاف جريح وطرد المستوطنين بعيدًا عن القرية، تعرض لإطلاق رصاصة من بعيد اخترقت صدره وأردته شهيدًا. والده يروي الواقعة بألم عميق وحزن قاتل، ويسأل بغضب: "لماذا قتلوه؟ كان يقدم المساعدة للنساء والجرحى ويخدم الناس!".

يتصاعد الحزن في صوته وهو يرثي ابنه، الشاب الرياضي ولاعب كرة القدم المحبوب: "حضر جنازته حوالي 10 آلاف شخص رغم أن عدد سكان القرية لا يتجاوز الألفي شخص، حيث يعود الكثير من سكان القرية من رحلاتهم في الولايات المتحدة بشكل منتظم".

ويضيف: "عمر كان يعتني بالفقراء ويحب طفليه عبد الله (عامين ونصف) وديمة (عام ونصف).

بالرغم من صغر سنه، إلا أنه حقق إنجازات لم يستطِع غيره تحقيقها طوال حياتهم. امتلك باقرًا وأسس مشروعه الشخصي لتسوية الأراضي الصخرية وجعلها صالحة لزراعة الزيتون. قبل ثلاثة أشهر، اشترى باقرًا له إطارات لمنحه مرونة أكبر في عمله، حيث كان الأول يسير على "جنزير" ويحتاج إلى مجهود كبير للتحرك بين الصخور.

لم يكن طموح عمر يتوقف عند تحقيق إنجازاته الحالية، بل كان ينظر بعيدًا نحو الأفق والمستقبل، وكان يتخيل نفسه بالطريقة التي يتخيلها والده الآن: "كان حلمه أن يصبح لديه شركة كبيرة، تشغل عددًا كبيرًا من العمال وتحقق نجاحًا باهرًا. وبفضل نجاحه في عمله الحالي واستمرار زيادة الطلب على خدماته، استطاع أن يشتري باقرًا جديدًا لتلبية هذه الطلبات، حيث لا يتوقف العمل لديه".

ورث مهنة أجداده

منذ ساعات الصباح الأولى وحتى لحظة رحيل الشمس عن سماء بلدة "ترمسعيا"، كان عمر أبو قطين يجد نفسه بين أحضان الأرض التي نشأ وترعرع فيها، لم يكن هناك مكان آخر يجذبه ويشغل وقته سوى تلك الأرض المحببة. كان يواصل العمل بجد واجتهاد، متجذرًا بين صخورها الصلبة التي منحته الصلابة والقوة ليتحدى المستوطنين ويدافع عن بلدته، يضيف والده.

تعرضت "ترمسعيا" لسلسلة من الاعتداءات المستمرة من المستوطنين. وفي كل مرة، كان "عمر" من بين الشبان الشجعان الذين يتصدون للمقتحمين ويدافعون عن قريتهم. قبل بدء أحد الهجمات، لم يتردد في إرسال تحذير للشباب وسكان القرية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أبلغهم عن تحركات المستوطنين وتهديدهم بشن هجوم عنيف. وقد تسببت تلك الهجمات في حرق السيارات والمنازل، وأشعلت نيران الحزن والغضب في قلب والد عمر، الذي أكد أن هذه ليست المرة الأولى التي يقوم فيها المستوطنون بارتكاب جرائمهم، إذ يستغلون غياب سكان القرية لتنفيذ مجازرهم الوحشية.

"زغردن، عمر شهيد"، بهمس مؤلم ودموع تغمر عيون الأم والغضب يعتصر صوتها، تتوسل والدة عمر للمعزين بوقف البكاء والحزن. لم تتمكن من إيقاف دموعها في تلك اللحظة المؤلمة، حيث حاولت إخفاء ألمها وحزنها وراء قطعة قماش تغطي وجهها المكلوم. أما شقيقة عمر، فعاتبت روحه المغيبة وهي تذرف دموع الحسرة، قائلة: ""قلنالك ما تروحش، أولادك يا عمر: ما قبلش، ما في أحن منه. اسأل عنه، بتجاوبك كل القرية".

قبل ثلاثة أشهر، احتفل الشاب عمر بيوم ميلاد ابنه "عبد الله" ونشر صورة تجمعهما في رحلة شواء على أحد جبال قريته. في تلك الصورة، كتب عبارة مؤثرة: "أدعو الله أن يمد بعمري لأراك كما تمنيت"، تعبيرًا عن رغبته في أن يعيش لفترة طويلة ليشهد نمو ابنه ويشاركه السعادة في حياته.

وفي اليوم التالي، استيقظ الطفل عبد الله ليجد البيت مليئًا بالمعزين دون وجود والده. بحث بين تلك الوجوه المكتظة وسأل عن والده، ليصدم بالخبر الصادم. أخبروه أنه في "الجنة"، لم يكن الطفل قادرًا على فهم الواقع المؤلم، فهو لا يزال ينتظر عودة والده من العمل.

صفحة عمر أبو قطين على فيسبوك تعكس حياته المليئة بالحيوية والتفاعل مع قريته ومحيطه. يمكن رؤية ذلك في كل صورة ينشرها، حيث يكون دائمًا متواجدًا ومشاركًا في الأنشطة المجتمعية والترفيهية، مثل ركوب الدراجات النارية والتنزه فوق قمم الجبال.

والد عمر يؤكد أنه كان رافضًا للعيش بعيدًا عن أسرته وإخوته الذين يعيشون في أمريكا، حيث لديه شقيقان هناك. على الرغم من إمكانية تأسيس مشروع في الخارج، إلا أنه اختار البقاء في قريته والاستمتاع بحياة بسيطة ومليئة بالمغامرات في جبالها.

ويصف عمر بأنه شاب يتمتع بحيوية ونشاط ملفت، وهذا ما يعرفه أهل قريته جيدًا. يمكن رؤيته في المقدمة في كل مناسبات الفرح والسعادة، وهو يدعم ويشارك فيها بكل حماس، مبينا أنه كان لاعبًا في فريق "ترمسعيا" في دوري الدرجة الثالثة بالضفة الغربية، وكان يتطلع إلى تحقيق إنجازات كبيرة والصعود إلى الدرجة الثانية.

أحد أصدقائه، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، يصفه بأنه شاب مغامر يعشق قيادة الدراجات النارية، ويمكن رؤيته دائمًا يستمتع بالطبيعة ويتجوّل في ربوع وطنه. في آخر لقاء جمعهما، وصفه بأنه كان مبتسمًا ومشاركًا الناس في فرحهم، كما كان دائمًا.

ويضيف: "لم يكن هذا التفاعل والنشاط محصورًا في الأوقات السعيدة فحسب، بل كان عمر دائمًا في مقدمة التصدي لاعتداءات المستوطنين. في كل اقتحام لسهل "ترمسعيا"، كان يتصدى لهم ويحذر أهالي القرية ويدعوهم للتصدي".

وبكلمات ممتلئة بالحزن يقول: "في المواجهة الأخيرة، كان من أوائل الذين استجابوا للتحذير ووصلوا إلى المنطقة، وأرسل تسجيلًا صوتيًّا لمجموعة شباب البلدة، لمواجهة المستوطنين حتى انسحبوا من القرية، وتعرض لإطلاق النار من جانبهم عند حدود المستوطنة".

يستحضر آخر صورة له قبل أن يلقي على روحه السلام في ختام حديثه: "أخي من الذين حملوا عمر عند إصابته حدثني أنه كان يسمعه وهو ينطق الشهادة قبل ارتقائه".

المصدر / فلسطين أون لاين