هي أيام حافلة بالحوادث الفلسطينية؛ في القاهرة وغزة أُعلنت مبادرة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) للمصالحة برعاية مصرية، قبل الخطاب السنوي للرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك بأيام، لتخطف بعضًا من وهجه، وتشغل الجمهور الفلسطيني بمصير المصالحة التي تنتظر عودة الرئيس إلى رام الله. وفي نيويورك، التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع رئيس وزراء العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو، وقال بيان رسمي مصري إنّهما بحثا تطورات عملية (السلام) الفلسطينية الإسرائيلية، وهي العملية التي تجاهلها نتنياهو في خطابه أمام الأمم المتحدة الذي أثنى فيه على شجاعة الرئيس السيسي!
ثمّة سؤال يُلحّ حول الجديد في خطاب الرئيس عباس، وهل فقد الأمل فعلا من حلّ الدولتين الذي طالما بشّر به، والذي بني اتفاق إعلان المبادئ بين منظمة التحرير وإسرائيل (أوسلو) على أساسه، كما بدا واضحًا من فقرات الخطاب، أنّ عباس متيقّن من أنّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قد دلّل على جديته بالقيام بصفقة القرن خلال أيام، كما قال قبل أن يستدرك قائلًا "خلال هذا العام" في تصريحه به بعد لقائهما على هامش اجتماعات الجمعية العامة؟ على الرغم من إغفال ترامب الكلي ذلك، حيث لم تحظ القضية الفلسطينية، على اختلاف مسمياتها، بكلمة واحدة في خطاب ترامب الطويل.
في خطاب الرئيس عباس، ما هو جديد وما هو مكرّر. ثمّة لهجة ارتفعت وتيرتها، وهناك اعتراف بأنّ الاستيطان لم يترك مكانًا لإقامة دولة فلسطينية، وأنّ السلطة الوطنية من دون سلطة، مشيرًا إلى أنّه قد اقترب من مطالبة (إسرائيل) بتحمّل مسؤولياتها دولة محتلة، وأنّ
(إسرائيل) تسعى إلى حل الدولة الواحدة بنظامين (أبارتايد)، مهددًا بأنّه، في هذه الحالة، سيسعى إلى إقامة دولة يتساوى فيها المواطنون بالحقوق والواجبات. وبمعنى آخر، فإنّه يحاول إخافة اليهود من أنّ فشل حلّ الدولتين سيقودهم إلى نظام فصل عنصري سيحاربه العالم (وكأنها ليست كذلك الآن) أو إلى ضياع الهوية اليهودية للدولة العبرية، وهو تهديد دأبت قيادات السلطة في السلطة إلى التلويح به في الفترة الماضية، لكنّه ينمُّ عن جهلٍ بالمخطط الصهيوني القائم على إلغاء الفلسطينيين وتهجيرهم، وليس استيعابهم فيها. ولهذا الحديث صلة.
ثمّة مسألة خطِرة تطرّق إليها الرئيس عباس في خطابه، ففي وقتٍ يهدّد فيه بسحب اعترافه بـ(إسرائيل)، نتيجة تنكّرها لحلّ الدولتين، فإنّه يدعو دول العالم إلى الإعلان أنّ اعترافها بـ(إسرائيل) تمّ على أساس حدود 1967، وهي سابقة خطِرة، تتنافي حتى مع قرارات الأمم المتحدة عام 1949 والخاصة بتقسيم فلسطين، وأظنّ أن هذه الدعوة تمثّل تنازلًا جديدًا وتراجعًا عن التمسك بقرارات دولية كثيرة، وهو أمر لا يفعله أي مفاوض حصيف.
ارتفعت أيضًا في الخطاب وتيرة مطالبة المجتمع الدولي بالتصدي للاستيطان، والمطالبة بإيقاع عقوبات على الشركات العاملة في المستوطنات، ومقاطعة بضائعها، وهو أمرٌ محمود، لكن ينبغي الانتباه إلى أنّه يتصدّى لنتيجة من نتائج الاحتلال، وليس للاحتلال ذاته، وباعتبار أنّ الاستيطان عقبة في وجه حلّ الدولتين، بعد أن تجاوز عدد المستوطنين في الضفة الغربية 750 ألف مستوطن.
تضمن الخطاب الحديث المعتاد والمكرّر عن الحقوق الفلسطينية المشروعة، والالتزام بعملية (السلام)، ونبذ (الإرهاب)، والجهد المبذول لتثقيف الشعب الفلسطيني بثقافة السلام، والاستعداد
للعودة إلى المفاوضات، وتعدّى ذلك إلى المطالبة بعودة الإشراف الأميركي عليها، وبذلك لم يغادر الدائرة التي ما زال يدور بها الرئيس، منذ أعاد إنتاج اتفاق أوسلو بمواصفاتٍ أكثر سوءًا. بل إنّه لم يلتزم، هذه المرة أيضًا، بوعد قطعه في الأعوام السابقة بتقديم طلب عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة إلى الجمعية العامة مباشرة، بدلًا من تقديمه إلى مجلس الأمن حيث يصطدم بالفيتو الأميركي. في هذه المرة، أعاد الكرّة بتقديم طلب العضوية إلى مجلس الأمن، ومن غير تلميح معتاد بتقديمه للجمعية العامة، إذا تعرّض القرار للفيتو الأميركي المتوقّع، في العام الذي يليه. وبذلك، يجدّد الرئيس محمود عباس التزامه السابق بعدم التقدّم بطلب العضوية أيضًا إلى عشرات المنظمات الدولية التي وقّع قبل أعوام على طلب الانضمام إليها، قبل أن تُحبس في الأدراج، نتيجة وعد قدّمته السلطة إلى إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، وكُشف عنه النقاب لاحقًا بعدم تقديم تلك الطلبات، وهو التزام جُدّد هذه المرة للرئيس الأميركي ترامب، بحجة منحه الفرصة الكافية لتقديم مبادرته المرتقبة.
ثمّة أمور ما زالت بحاجة إلى مزيد من التفاصيل، إذ تطرق إليها الرئيس بشكل عابر، مثل توجه الحكومة الفلسطينية إلى غزة، ومسيرة المصالحة وحجم العقوبات التي ستُرفع، وآليات ترتيب العبور عبر رفح، والمرجّح أنّها بُحثت بين الرئيس السيسي ونتنياهو، حيث ينبغي أن تتضمن تلك الترتيبات وجود مراقبين أوروبيين وربط معبر رفح بنظام فيديو كونفرنس، يتيح لغرفة عمليات أمنية إسرائيلية صلاحية رفض سفر المغادرين أو القادمين أو قبولهم، ولعلّ هذا أحد أسباب عدم فتح السلطات المصرية المعبر بصورة دائمة، من دون موافقة وترتيب إسرائيليين، وهو ما يقتضي وجود أمن السلطة (الحرس الرئاسي) في المعبر.
ستكون توجهات الرئيس عباس مرتبطة أيضًا بطريقة وآلية دعوته المجلس الوطني الذي قال، في خطابه، إنّه سيُحدّد الاستراتيجية الفلسطينية الجديدة للمرحلة المقبلة، وهنا ينبغي التساؤل عن طبيعة هذا المجلس، وكيف سيتشكّل وضمن أي آليات. وقد داعب الخطاب في الجمعية العامة للأمم المتحدة الجمهور الفلسطيني والعربي بشكواه من ممارسات الاحتلال، وتنكّره للحلول السلمية، وشارك هذا الجمهور مشاعره تجاه السلطة الفلسطينية التي تفتقد أبسط مظاهر السيادة، ويأسه من سراب حلّ الدولتين، وهو خطاب بصوت مرتفع، لكنّه بالمطالب ذاتها التي ينخفض سقفها يومًا بعد يوم. .. باختصار، لم يحمل الصوت المرتفع في خطاب الرئيس محمود عباس خارج المربع الذي يقف فيه منذ اتفاق أوسلو وربما قبلها.