تجولنا في أنحاء قرية بربرة. كان استغلال الاحتلال للأرض هامشياً، فقد أقام مستوطنة صغيرة لا تزيد عن خمسين دونماً، وزرع مئات الدونمات لصالح تلك المستوطنة، وأقام محطة للقطار وسكة حديد تمر عبر القرية. لقد تفاجأنا من أن الاحتلال وعبر احتلال دام لأكثر من سبعة عقود لم يستغل الأرض بشكل جيد، مما يعني عدم حاجته لها، فلماذا طرد الفلسطينيين منها وهو لا يحتاجها؟!
دعا الحاكم العام كل اللاجئين للتوجه إلى مقره في غزة لتسجيل ملكياتهم التي نهبها الاحتلال أو دمّرها وأتلفها، وتوكيل الحاكم العام بملاحقة المحتلين عبر العالم لتحصيل قيمة ممتلكاتهم التي أهدرها الاحتلال، كما أنشأ دائرة لتقدير قيمة استغلال الاحتلال للأرض ومقدراتها خلال كل تلك العقود من السنين. توجهتُ مع أشقائي العائدين من خارج فلسطين لتسجيل ملكياتنا، وتوكيل الحاكم العام لملاحقة المحتلين للتعويض عن استغلالهم لأرضنا، وفي غضون ستة شهور انتهت عمليات حصر الأملاك، وتقدير قيمة التعويضات؛ تلك التعويضات التي ستسددها الجهات السيادية من الأموال السائلة التي تم وضع اليد عليها في المؤسسات المالية المنتشرة في فلسطين المحررة، فضلاً عن ملاحقة مالية ذات طابع قانوني لكل اليهود الذين هرّبوا أموالاً إلى خارج فلسطين أثناء عملية التحرير، أو أنشؤوا شركات مزدوجة الجنسية، ولما شعروا بقرب نهايتهم في فلسطين هربوا بأنفسهم نحو شركاتهم الخارجية التي ما كان لهم أن يؤسسوها لولا نهبهم لثروات فلسطين طوال تلك العقود.
أما الأهالي الذين توافدوا عائدين من خارج فلسطين وأسكنتهم اللجان المختصة في الأبنية القائمة بصفة مؤقتة، فقد انتهت عمليات الإحصاء كافة في أقل من سنة، ومن ثمَّ شرعت الجهات السيادية في تمكين كل عائلة من ملكياتها، أو مقايضتها على بعض الأبنية المكافئة كلما لزم الأمر، وأما أنا وأشقائي فقد عدنا إلى أرض جدي لأنه لم يكن عليها أية أبنية أو مؤسسات، فتقاسمناها وعزمنا على البناء فيها بجانب مزرعة، وتشاركنا في بناء مسجد في جزء منها عن روح جدي ووالدي.
لقد أصدر الحاكم العام قبل نهاية السنة الانتقالية قانوناً يَحرِم كل خائن من ملكياته، وإيداع هذه الملكيات لحساب الدولة، على أن تكون الأولوية لأولاد الخونة وأحفادهم في استئجار تلك الأراضي من السلطات لأغراض زراعية، وذلك تشجيعاً لهم للتمسك بأرض فلسطين، وإعلاناً بعدم رفع الصفة الفلسطينية عنهم ومنعاً لتكرار العقوبة. وأما أراضي الوقف الإسلامي التي أُقيم على جزء منها سكة حديد وطرق معبَّدة، فقد تم تخصيص أراضٍ مكافئة لها من الأراضي الحكومية، لتبقى تلك للنفع العام، والأمر نفسه حصل مع الملكيات الخاصة.
مع تمام عملية إعادة الأملاك لأصحابها، قرر كبار المُلّاك عقد اتفاق بينهم على زراعة العنب على وجه الخصوص، وتطوير هذه الزراعة التي اشتهرت بها بربرة قبل النكبة، لتكون الأولى فلسطينياً، واتفق الجميع على جعل بربرة مدينة عامرة بأهلها واتخاذ ورقة العنب الخضراء شعاراً لبلديتها.
(..فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ۖ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا). (الإسراء 52)