تقلب سلام ماضي قرص العجين بين راحتي يديها، حتى يصبح لينًا رقيقًا قبل أن تضعه في مخبز آلي يضم نتوءات تعطيه شكلًا كالخبز البلدي الذي كانت تصنعه في فرن بيتها على حصى يتلقى حرارته من نار الحطب.

منذ ثماني سنوات تقف "سلام" زوجة الشهيد خالد ماضي، بكل ثقة وسط مخبزها في البلدة القديمة بمدينة سلفيت، لا تهمها نظرة الناس الدونية تجاه عمل المرأة في مهنة لطالما كانت حكرًا على الرجال، تسند أبناءها الأربعة، وتشد عضدها بهم بعدما اشتدت سواعدهم وأصبحوا يدها اليمنى في إنجاح مشروعها.

كانت ماضي (45 عامًا) تعيش حياة سعيدة هانئة، تعتمد كليًا على زوجها في تدبير شؤون البيت، حتى انهار كل شيء أمامها في لحظة إصابته واستشهاده بين يديها.

تقول ماضي لـ"فلسطين": "كان الثامن من مارس/ آذار من عام 2004 تاريخًا مفصليًا في حياتي، حين كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي تلاحق فلسطينيًا مطلوبًا بالقرب من بيتنا، وإذ به زوجي، فأطلقوا الرصاص عليه وهو أمام دكانه، ليرتقي شهيدًا بين يديّ".

وتضيف: "حين استشهد خالد كان أكبر أبنائي في الثامنة من عمره، وأصغرهم لم يتجاوز 40 يومًا، انتظرت حتى يشتد عوده، وبعد عامين من ذكرى استشهاده، بدأت في صنع الخبز البلدي والمعجنات والمفتول، وحلويات العيد في البيت".

شيئًا فشيئًا ذاع صيت سلام في البلدة القديمة وسلفيت بكاملها، واستطاعت ادخار بعض المال بعد عملها في إحدى المؤسسات الخاصة، فقررت أن تفتتح مخبزها الخاص في عام 2016م في وسط البلدة القديمة لتوسعة مجال عملها، وأصبحت تديره بمساعدة أبنائها.

لم تسلم ماضي من كلام الناس من حولها، كيف لسيدة أن تدير مخبزًا في السوق وسط الرجال؟ وعن مواجهتها الأمر تتحدث: "في كل الأحوال سيتحدث الناس عني، وإذا بقيت خائفة من كلامهم لن أتمكن من توسعة مشروعي، وسأبقى أسيرة كوبونات أهل الخير".

وتردف: "لثقتي بنفسي دعمت نفسي، ولم أستسلم لكلام الناس الذي لا ينتهي، فأبنائي يحتاجون إلى من يعيلهم، وأنا أحتاج المال لأكفّ عن سؤال الناس، وأُلبي مصروفات حياتي بكرامة دون حاجة إلى من يتصدق علينا".

الإرادة والإدارة

من الساعة الثالثة فجرًا تستيقظ ماضي وتتجه لمخبزها، تحضر العجين، وتخبز الخبز البلدي، ومناقيش الزعتر والبيض الممزوجة برائحة نار الحطب، لتفوح الروائح الشهية في أرجاء البلدة القديمة، وتجذب الزبائن مع الساعة السادسة صباحًا لتناول فطورهم من مخبوزاتها اللذيذة. 

وما إن تنتهي من تحضير مخبوزات الإفطار، تنتقل لتحضير وجبات الغداء، وتبيّن أنها تبدع كذلك في صناعة الأكلات بأنواعها، فهي تمتلك موهبةً و"نفَسًا" في الطبخ، فتصنع المعجنات، والمفتول، وفخارات اللحمة، والدجاج، والمسخن، والقِدر المُنكهة برائحة نار الحطب التي يفتقدها الكثير من الناس حاليًا مع انتشار أفران الغاز التي توفر الوقت والجهد.

وتؤكد سلام أن أي نجاح لا يبدأ كبيرًا، بل يبدأ بمشروع صغير، سرُّ استمراره امتلاك الإرادة والإدارة، والتدبير الجديد لشؤونه، ومن ثم يكبر رويدًا رويدًا.

وتوجه رسالة لكل النساء اللواتي يعانين ظروفها، أو ظروفًا مشابهة ألّا يستسلمن للواقع، أو يبقين أسيرات لنظرة المجتمع وكلامه المثبط، بل عليكن التحلي بالقوة، وعزة النفس، ولا تنتظرنَ مساعدة من أي أحد، بل ابحثنَ عن مصدر رزقكنّ بأنفسكنّ، وحاربنَ من أجل إثبات أنكنّ قادرات على النجاح.

وتنصح النساء في فلسطين أيضًا ألا يستسلمنَ للحزن، وأن يغادرنَ جدران بيوتهنَ، و"المعافرة" في هذه الحياة، واستمداد الدعم من أنفسهنّ حتى يتمكّنّ من الاستمرار في النجاح.