من خلال المعطيات والوقائع على الأرض وما تقوم به حكومة الاحتلال من سنّ للمزيد من القوانين والتشريعات العنصرية بحق شعبنا الفلسطيني، وكذلك ما تتخذه وتوافق عليه وتقره حكومة الاحتلال ولجان التخطيط والتنظيم المحلية والقطرية للبناء من مخططات ومشاريع استيطانية جديدة، تشير بشكل واضح إلى سقوط ما يسمى وهم عملية السلام بالضربة القاضية في ظل "تسونامي" استيطاني شامل، يجتاح كل مساحة فلسطين التاريخية، الجذر الفلسطيني-48-،القدس والضفة الغربية.
ويضاف إلى ذلك بأن خارطة الطرق الأمريكية لما يسمى بالحل، تتجاوز وتقبر حل الدولتين، بل هي تتبنى وجهة نظر نتنياهو بالكامل، في إعطاء الفلسطينيين حكمًا ذاتيًا في الضفة الغربية، وإخراج القدس من دائرة التفاوض، وبما يثبت بأن أمريكا، هي أمريكا معادية بشكل مطلق لشعبنا الفلسطيني ولحقِّه في تقرير مصيره ودولة مستقلة تلبي طموحاته في الحد الأدنى، دولة فلسطينية كاملة السيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وعاصمتها القدس.
(إسرائيل) بالملموس وعلى أرض الواقع تنفذ وتترجم مخططاتها ومشاريعها إلى أفعال لتنفيذ مشروعها المتعلق بالسلام الاقتصادي، مقايضة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بحلول ومشاريع ورشاوى وتسهيلات اقتصادية، تأبد وتشرعن الاحتلال، وهذه الرؤية وهذا الموقف حملها نتنياهو إلى واشنطن عندما التقى ترامب في 15/2/2017 في واشنطن، وأعاد التأكيد عليها في زيارة ترامب لدولة الاحتلال والمنطقة في أيار الماضي.
ونتنياهو وفريق حكومته من غلاة المتطرفين والعنصريين، لا وقت لديهم للغو الفارغ والإنشاء والحديث عن ما يسمى بالشرعية الدولية، والمؤسسات الدولية، فهذه فقط موجودة لفرض قوانينها وقراراتها وعقوباتها على الدول التي لا تتوافق أو تتماشى سياساتها مع أهداف ومصالح وسياسات أمريكا و(إسرائيل) والغرب الاستعماري في المنطقة، والحق دائمًا لا يحتاج فقط إلى عدالة، بل إلى قوة تقف خلف هذا الحق، ودون ذلك يبقى حق مجرد.
يبدو بأن (إسرائيل) وجدت بأن الظروف الفلسطينية والعربية والدولية، تمكنها من فرض شروطها وإملاءاتها ومشاريعها على الشعب الفلسطيني، وفرض استسلام كامل عليه.
الاحتلال يرى بأن السلطة دورها ووظيفتها بالشكل الحالي قد انتهت، ويجب أن يتحول فقط إلى ما هو دون روابط القرى، على أن يناط بها الجوانب الشرطية والأمنية في المناطق التي توجد فيها، وبعض الوظائف والشؤون والجوانب الإدارية، بحيث يجري نزع الصلاحيات المدنية التي كانت تقوم بها، على أن يجري لاحقًا تهميشها بشكل كامل، وليس أدل على ذلك ما قامت به “إسرائيل” من إحياء للإدارة المدنية وتوسع صلاحيتها وزيادة أعداد موظفيها وإلغاء مكانتها التاريخية كوحدة عسكرية، على أن يقوم السكان الفلسطينيون بمتابعة قضاياهم وشؤونهم ومشاكلهم مباشرة مع الإدارة المدنية، وليس من خلال السلطة والارتباط المدني.
(إسرائيل)، تضع سيناريوهات كاملة، لكي لا تخرج الأمور عن سيطرتها، أو تشكل تهديدًا لأمنها وأمن مستوطناتها، في حال رحيل الرئيس عباس وتغيبه بالموت أو التخلي عن السلطة.
لم يكتفِ الاحتلال بهذه الخطوات، بل عمدت إلى تشكيل مجلس خاص للمستوطنين، من أجل إدارة شؤونهم في البلدة القديمة من الخليل، في محاولة جادة لفصل البلدة المدينة عن المدينة وقلبها عن مدينة الخليل، واستكمال تهويدها، وتحويل حياة سكان الخليل الى جحيم، ناهيك أن ذلك يشكل تعديا صارخا على هوية المدينة وعروبتها وتاريخها وإرثها الحضاري والتاريخي والإنساني.
ولم تكتفِ بهذا التصعيد، بل شرعت إقامة بؤرة استيطانية جديدة، للمستوطنين الذين جرى إخلاؤهم من مستوطنة “عمونا” على أراض خاصة جرى مصادرتها والاستيلاء عليها لمواطنين فلسطينيين من أراضي قرية جالود، وخصص لهذه البؤرة الاستيطانية “عميخاي” (60) مليون شيكل، بما يقطع ويمنع تواصل بلدات ومدن الشمال الفلسطيني مع بعضها بعضًا، ضمن مخطط قبر حل الدولتين، في حين القدس تتعرض لعدوان شامل غير مسبوق، من أجل الإجهاز عليها بشكل ونهائي، حيث المشاريع الاستيطانية الضخمة، بما يشمل قلب الأحياء العربية، في خطوات استفزازية وتصعيدية.
ومن المقرر أن تصادق اللجنة المحلية للتخطيط والبناء على إضافة 176 وحدة استيطانية جديدة إلى مستوطنة “نوف تسيون” المزروعة في قلب جبل المكبر، لكي تصبح أكبر مستوطنة في قلب الأحياء العربية، وكذلك أرض الولجة في الجنوب الغربي لمدينة القدس، والتي تشهد مذبحة حجر، تتهدد عشرات منازلها بالهدم، يجري مصادرة معظم أراضيها من أجل بناء أكثر من 4000 وحدة استيطانية، ناهيك عن إقامة ما يسمى بالحدائق الوطنية والمسارات التلمودية.
أما في الشيخ جراح وسلوان، فنشهد عمليات تطهير عرقي، ليس فقط من خلال الهدم للمنازل، بل بالاستيلاء عليها والتهويد لها، حيث تم الاستيلاء على بيت أيوب شماسنة، من قبل الجمعيات الاستيطانية بزعامة عضو بلدية القدس وعراب مشروع تهويد الجليل المتطرف ”أريه كنج”، كمقدمة من أجل الاستيلاء على بقية منازل الحي، حيث جرى إخطار ست من عائلاتها بإخلاء بيوتها خلال 30 يومًا، تحت حجج وذرائع أن البيوت والأرض التي هي وقف ذري تعود ملكيتها لعائلات يهودية منذ عام 1890، وهذا المشروع الاستيطاني المستهدف إسكان 400 عائلة يهودية على أنقاض بيوت هذا الحي خلال السنوات الخمس القادمة، مشروع سياسي بامتياز.
يحكم الطوق حول البلدة القديمة، ويوصل البؤر الاستيطانية مع بعضها البعض، أما في سلوان وبالتحديد في حي بطن الهوى، فهناك خطر التقتلاع يهدد سكان الحي بأكمله، تحت نفس الحجج والذرائع المساقة في حي الشيخ جراح، ملكية الحي لعائلات يهودية، وقد جرى الاستيلاء على العديد من المنازل هناك، ناهيك عن إقامة كنيس يهودي في قلب الحي وإدخال كتب توراتية إليه، بما يحول حياة السكان هناك إلى جحيم، ويزيد من حدة التوتر والتصعيد بشكل غير مسبوق، أضف إلى ذلك بأن خطر الإخلاء والهدم يتهدد حي البستان في وادي حلوة بكامله، و88 منزلًا فلسطينيًا تؤوي 1500 مواطن فلسطيني.
وكذلك الحرب على الأقصى من بعد هزيمة الاحتلال في هبة باب الأسباط لم تتوقف، حيث الاحتلال صعد من استهدافه للأقصى بشكل غير مسبوق، ولتبلغ ذروة هذا التصعيد بإغلاق باب الرحمة بشكل نهائي، ومقاضاة الأوقاف أمام محاكم الاحتلال واعتبارها منظمة “إرهابية”، في تحد سافر للقوانين والمواثيق والاتفاقيات الدولية، وما صدر عن “يونسكو” ولجنة التراث العالمي، بتأكيد أن المسجد الأقصى، هو إسلامي خالص، ولا حق فيه لأتباع الديانات الأخرى، ولا وجود لأي علاقة ما بين اليهودية وما يدعون أنه جبل الهيكل، وكذلك هذه محاولة لتغيير الوضع التاريخي والقانوني للمسجد الأقصى و”الإستاتيكو” المعمول به منذ زمن البريطانيين.
هذه الحرب الشاملة التي تُشنُّ على شعبنا الفلسطيني، على درجة عالية من الخطورة، هدفها شطب قضيتنا وإنهاء مشروعنا الوطني، وتفكيك نسيجنا الوطني والمجتمعي، ولذلك لا يجوز ولا يحق لنا استخدام نفس الأساليب والطرائق والمشاريع والمفردات السابقة في مواجهة هذا العدوان الشامل، فلا بد ومن الملح جدًا إحالة (اسرائيل) إلى محكمة الجنايات الدولية ومحاكمتها على جرائم الحرب التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني.
التصعيد الإسرائيلي وبالذات الاستيطاني منه، يحمل رسالة واضحة لشعبنا وللعالم أجمع، بأنه لا مجال لإقامة دولة فلسطينية.
ولذلك استراتيجيتنا الشاملة للمواجهة، يجب أن تستند إلى الاشتباك الجمعي مع المحتل شعبيًا ورسميًا على كل المستويات، من خلال تصعيد وتائر النضال الشعبي والجماهيري السلمي، والاستفادة من تجربة هبة باب الأسباط، والنضال السياسي والقانوني والحقوقي والدبلوماسي، في كل المحافل والمؤسسات الدولية، ومراجعة نهج وخيار المفاوضات العبثية، لجهة بناء استراتيجية موحدة تقوم على الصمود والمقاومة، وعدم الدخول في مفاوضات حاليًا من شأنها أن تزيد من خسارتنا ونزيفنا.
وهذا لن يتحقق سوى بالإسراع في وأد وإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، وإنهاء حالة التدهور والأزمة في النظام السياسي الفلسطيني، عبر تجديده من خلال انتخابات ديمقراطية ومشاركة جماعية في القرار والسلطة، وإلا فإننا سنهدم روما والمعبد على رؤوسنا.