لا يُعدّ القول إن أحد أبرز أهداف حراك الاحتجاج على خطّة التشريعات التي تحاول الحكومة الإسرائيلية الحالية الدفع بها، والرامية إلى إضعاف الجهاز القضائي، يتمثل في عدم المساس بالصورة الملفّقة التي أنتجتها الحركة الصهيونية عن نفسها، وأصبحت مقبولة لدى دول عديدة، بمنزلة كشف المستور، فهذا الهدف يشكّل، منذ البداية، دين قادة هذا الحراك من السياسيين والناشطين وديدنهم.
ويمكن أن يُضاف أن إحدى أهم غاياتهم تتجسّد في إعادة إنتاج الصهيونية عبر توكيد أن جينيولوجيتها تشي بأنها حركة تحرّر المجتمع اليهودي قوميًا، والتي أقامت "واحة ديمقراطية" في صحراء الشرق الاستبدادية، ما زالت تحمل دلالة "الفيلا في الغابة"، بما تعبّره عن نظرة (إسرائيل) وأغلب المستوطنين اليهود إلى الشرق الأوسط، حيث تسود من حولهم الهمجية والخراب والتخلّف والأصولية، بينما هم فقط، في "فيلتهم"، المتحضّرون والمتقدّمون، كما كرّر أحد رؤساء الحكومات السابقين، إيهود باراك، في إثر الربيع العربي عام 2011. وهو الذي عاد أخيرا بقوّة إلى دائرة الضوء، بصفته أحد قادة الاحتجاجات على خطة إضعاف السلطة القضائية.
وفي مناسبة الذكرى السنوية الـ75 لتأسيس (إسرائيل) التي وافقت أمس، نشر أمس مقالًا في صحيفة هآرتس، عدَّ في سياقه أن الخطّة المذكورة تحمل في أحشائها انقلابًا على الصهيونية، باعتبارها سفينة الإنقاذ التي حقّقت "حلم عودة اليهود إلى وطنهم التاريخي". وشدّد على أنه بالرغم من اتفاقيات السلام العتيقة مع مصر والأردن واتفاقيات التطبيع الإبراهيمية الطازجة، التي يمكن أن تتّسع، ما انفكّ الشرق الأوسط بيئة قاسية ومعادية. ولا يجوز ل(إسرائيل) الاستهتار بأي تهديد، وعليها الاستعداد لاختبارات المستقبل، شاملًا ضمن التهديدات إيران وحزب الله وحركة حماس، ومنوّهًا إلى أن السلطة الفلسطينية تبتعد أكثر فأكثر عن تلبية التوقعات الإسرائيلية منها.
ورُبمّا يتعيّن أن يُشار كذلك إلى أنه بالرغم من إقفال أبواب الاحتجاجات أمام الداعين إلى الربط بين الحراك الحالي ومستقبل السلام عبر التخلّي عن الاحتلال وأيديولوجيته، إلا أن أصواتًا قليلة بين الإسرائيليين أنفسهم تسلّلت من منافذ غير رسمية، لتؤكد أن إصرار أغلب قادة الاحتجاج وناشطيه على غاية الدفاع عن "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، إن لم يعكس، في العمق، رغبة في أن تتحوّل (إسرائيل) في ما بعد إلى دولة عاديّة تخضع إلى كل قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية، فسيظل مُشتبهًا به بأنه من نوع الإصرار الذي يهدف إلى مواصلة الالتفاف على كونها دولة أبارتهايد، بحسب ما أكّدت أخيرا عدة منظمات حقوق إنسان دولية وإسرائيلية، في ارتباطٍ مباشر مع تأسيسها على جرائم تطهير عرقي في 1948 ومع الاحتلال في 1967.
هل يمكن القول، في ضوء ذلك، إن هذه القضية ستظلّ خاضعة لعملية تراكم؟... إذا كان تأسيس (إسرائيل) يذكّر بالنكبة الفلسطينية، فينبغي أن نعيد إلى الأذهان هنا، وفي مناسبة ذكرى هذا التأسيس، أن استخدام مفردة النكبة في الخطاب الإسرائيلي المتداول لتصوير حالاتٍ قصوى من الكوارث، مرّ بسيرورة مماثلة من الدخول عبر النوافذ غير الرسمية، ومن التراكم إلى حدّ ما. وذلك على الرغم من اتخاذ إجراءات حكومية وشعبية عديدة لصدّ هذا الأمر، وتمثلت ذروتها في سنّ "قانون النكبة" عام 2011 الذي يهدف إلى منع إحياء ذكرى النكبة الفلسطينية، وقمع المبادرات لتعليم تاريخ البلد بشكلٍ يختلف عن الرواية الإسرائيلية. وبشكل عكسي، في الوسع القول إن محاولات الإسكات هذه أبقت القضية حيّة كجرح مفتوح، من الممكن أن يلتهب في أي لحظة. وفي واقع الحال، متابعة استخدامات كلمة نكبة بالعبرية بلفظها العربي فيه قدر من الطرافة وآخر من الجديّة. ومنها وصف الشاعر الإسرائيلي يونتان غيفن، الذي توفي هذا الأسبوع، وسبق أن تعرّض لاعتداء يميني إرهابي، بسبب مواقفه السياسية، إعادة انتخاب بنيامين نتنياهو عام 2015 بقوله إن "الشعب اختار ثانية من يؤسّس حكمه على تخويف الشعب"، معتبرًا أن يوم الانتخابات "نكبة لمعسكر السلام"!