بالرغم من استمرار الهدوء الأمني الحذر القائم على الجبهات المشتعلة حول الاحتلال، لكنه بنظر كثير من أوساطه يمكن توصيفه بأنه "وحل ومستنقع"، بسبب افتقاده لقيادة تحوز على رؤية إستراتيجية، لأن العقود الماضية كشفت، وباعتراف الإسرائيليين أنفسهم، أنه لا توجد مثل هذه الرؤية الشاملة لديه، في المجالين العسكري والسياسي، وعلاقات الدين والدولة، والأداء الاقتصادي المرتبك.
في الوقت ذاته فإن الإجماع الوحيد السائد لدى الإسرائيليين هذه الأيام، ويكاد يتفق عليه معسكرا اليمين واليسار، المتدينون والعلمانيون، مؤيدو الانقلاب القضائي ومعارضوه، هو ما يطغى على عمل الحكومات الإسرائيلية في العقود الأخيرة من غياب أي إستراتيجية منظمة في مختلف مجالاتها الأمنية والسياسية، حتى لو كان هناك شيء من هذا القبيل، فإنه يتلخص في إستراتيجية "إطفاء الحرائق" فقط.
في مثل هذه الحالة يقع اللوم على عاتق المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية، بدليل أنها كرّست نفسها وجيشها وأجهزتها الاستخبارية بالكامل تقريبًا لنماذج فاشلة من الحروب العقيمة التي تشنها على الجانب الآخر: الفلسطيني والعربي، وتنتهي دائمًا دون أي مظهر من مظاهر القرار، ولذلك لا عجب أن جيش الاحتلال وقيادة الدولة، يترددان منذ سنوات في تنفيذ عمليات برية داخل أراضي "العدو"، سواء على حدود قطاع غزة، أو قلب الضفة الغربية، أو مشارف جنوب لبنان، وحتى عندما يحدث ذلك على ما يبدو، تُنفذ بحذر متلعثم.
آخر عملية برية أو شبه برية حصلت على حدود غزة كانت في 2014، وفي الضفة الغربية في 2002، وفي جنوب لبنان في 2006، وكل ذلك نجم في بعض نتائجه عن عدم إجراء مناقشة متعمقة للعديد من الإخفاقات المتأصلة التي كانت في أساس هذه الخطط العسكرية العملياتية.
اقرأ أيضاً: للأسبوع الـ15: الاحتجاجات تتجدَّد ضد حكومة نتنياهو
بمزيد من التفصيل فإنه منذ عام 1967 حتى اليوم، لم يضع اليمين الإسرائيلي، خاصة تحت قيادة نتنياهو، أي خطة منظمة لرؤية الاحتلال فيما يتعلق بمستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بالرغم من أن هذه القضية بالذات شكلت بدورها نقطة الخلاف الرئيسية بين معسكري اليمين واليسار لدى دولة الاحتلال، اللذين اكتفيا بالاعتقاد الخاطئ أن عامل الوقت والانتظار يشكل لوحده خطة عمل، وأن القضية الفلسطينية، وبعد مرور قرابة قرن من الزمن على ظهورها لا يتوقع أن تختفي في أي وقت قريب.
هذا لا يعني وفق النقاش الإسرائيلي السائد في عمومه، ولا سيما في معسكر اليمين، الانسحاب من مزيد من الأراضي الفلسطينية المحتلة، استمرارًا للانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة، الذي كشف أمام الاحتلال عما بات يعتبره فراغًا إستراتيجيًا هو الأكثر حدّة منذ عقود طويلة في ضوء تصاعد المقاومة فيه، وتحولها إلى التحدي الأكثر خطورة على الاحتلال داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

