"الحمد لله طلب الشهادة ونالها مقبلًا غير مدبر" بتلك الكلمات المليئة بالإيمان والانتماء والصبر نعت والدة الشهيد محمد غازي أبو ذراع نجلها لحظة زفَّ إليها خبر ارتقائه شهيدًا برفقة الشهيد سعود الطيطي الثلاثاء الماضي في اشتباك مسلح مع قوة للاحتلال قرب مستوطنة "ألون موريه" شرقي نابلس.
في حارة واحدة تَجاور أبو ذراع والطيطي وترعرعا بين زقاق وشوارع مخيم "بلاطة" كل واحد منهما حمل إرثًا مقاومًا عُبِّد بدماء الشهداء، فأبو ذراع ورث البطولة عن جده ووالده وعمته الذين استُشهدوا، والطيطي نشأ على سيرة شقيقه الشهيد محمود.
جمع الشابان الثائران قضبان سجن واحد غيّبتهم عن العالم الخارجي لسنوات طويلة لكن لم تغب فلسطين عن قلبيهما، فمجرد تحرُّر الطيطي قبل سبعة أشهر من سجون الاحتلال بعد ست عشرة سنة أمضاها في الأسر، حمل البندقية من جديد ونزل إلى ساحة المواجهة، يشهر سيف المواجهة في وجه قوات الاحتلال.
إرث مُتجذّر
من عائلة تتجذّر فيها المقاومة من الأب إلى الحفيد، ورث محمد أبو ذراع (30 عامًا) جينات الثورة من جده، كما ورث اسمه، وتاريخًا حافلًا في مقارعة الاحتلال ما يزال منقوشًا على جدران مخيم "بلاطة" بنابلس وفي ذاكرة أهل المخيم حتى استُشهد محمد الجد في اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال نتج عنه مقتل جندي إسرائيلي في 3 مارس/ أذار 1986.
في تسعينات القرن الماضي وفي اشتباكات شهدها المخيم، قتلت قوات الاحتلال والده غازي أبو ذراع، فعاش محمد حياة اليُتم وهو بعمر ست سنوات، نشأ على تضحيات فقدَ فيها الجد والأب، وكان لها دور في اشتعال نيران الثورة بداخله منذ طفولته، كما استُشهدت عمته لطيفة متأثرة بمعاناتها الصحية في أثناء سجنها لدى الاحتلال وحكمت بالسجن 35 عامًا أفرج عنها بصفقة "وفاء الأحرار".
بمجرد أن بلغ أربع عشرة سنة سجَن الاحتلال الفتى أبو ذراع لمدة ثماني سنوات وتحرر مع عمته في صفقة "وفاء الأحرار" عام 2011، وعندما خرج لم ينحنِ عن طريق عبّده جدُّه ووالده وعمته.
اقرأ أيضًا: الاحتلال يرفض تسليم جثمانَي الشهيدين "الطيطي" و"أبو ذراع"
كان عمه محمود أبو ذراع الذي تولى تربيته شاهدًا على تلك المسيرة الحافلة في مقارعة الاحتلال، يفتح صفحاتها لصحيفة "فلسطين" بنبرة فخر قائلًا: "محمد منذ طفولته وهو يحب الشهادة والنضال والمقاومة، تأثّر باستشهاد جده ووالده فنبت الثأر بداخله، امتاز بالشجاعة والبسالة كان يشتبك مع الاحتلال في نابلس وجنين وأينما نقطة كان يوجد فيها جيش الاحتلال".
الشاب الثائر الذي لم يُدِر للاحتلال ظهره في أيّ يوم من ساحات المواجهة، كان مختلفًا مع أفراد عائلته: "هو إنسان طيب وبسيط، لم أذكر أنه ضايقني في يوم من الأيام أو ضايق أحد أهالي المخيم".
قطع الراتب
قبل ست سنوات سجنت أجهزة أمن السلطة محمد أبو ذراع لمدة عامين ونصف، وقطعت راتبه كأسير محرر أسوة بالعشرات من أقرانه المحررين الذين قطعت السلطة مخصصاتهم المالية.
بين الأشجار والطرقات وزقاق المخيم، تخفّى محمد عن أعين جيش الاحتلال التي كانت تلاحقه وتتبع آثاره للوصول إليه، يزيح عمه الستار عن بعض فصول معاناة المطاردة هنا: "كانوا ينامون ويأكلون هو وبعض المقاومين المطاردين بين الأشجار، ومعظم وقته يمضيه بالخارج، بصعوبة كنا نراه".
أما الشهيد سعود الطيطي (37 عامًا) فقد استنشق الحرية قبل سبعة أشهر بعد 16 سنة أمضاها في سجون الاحتلال، سرقت ربيع عمره وحرمته من طفله محمود الذي لم يزد عن عمر عام آنذاك، فخرج ووجده شابًّا بعمر 17 عامًا، عاش الطفلُ بعيدًا عن حياة ودفء والده.
من عائلة قدمت الشهيد محمود الطيطي أحد مؤسسي كتائب شهداء الأقصى بنابلس عام 2002، وأخوة نالوا أحكامًا عالية في سجون الاحتلال، نشأ سعود الأصغر سنًّا بين أخوته على ذات الدرب.
لم تمنع رتبته كعقيد بجهاز المخابرات السلطة من الإقدام على قطع راتبه، تعرّض معه هو وأخوته لضغط من الاحتلال والسلطة معًا لثنيهم عن طريق المقاومة.
يقول شقيقه كايد لصحيفة "فلسطين" بصوت يجرحه الحزن والظلم: "تربينا على الإرث الذي تركه لنا شقيقنا الشهيد محمود كمقاوم مؤسس، الطفل في عائلتنا يولد وبيده بندقية فهكذا وُلد سعود ولم نتربَّ على أقل من ذلك، لكنّ الاحتلال والسلطة ضغطوا علينا بكل الطرق وبقطع راتب أخي وسجنه لأجل التخلي عن المقاومة".
على مدار ستة عشر عامًا في سجون الاحتلال تفاعل الطيطي مع الأسرى بما امتلكه من موهبة في كتابة الشعر وفنّ الخطابة، "كان عنفواني بشكل لا يوصف، ربى جيلًا من الأسرى، وامتاز بالحنّية والطيبة لأنه الأصغر بيننا ونحن من قمنا بتربيته".
اختار الشهيد الطيطي طريق إكمال مسيرة المقاومة والنضال رافضًا أخذ "استراحة محارب" بعد مسيرة حافلة ختمها بالشهادة في ساحة المعركة.