في واحدة من ليالي رمضان الخالدة، في عام قمري لم يصبح بعد عامًا هجريًا، دوّى صوت المَلَك الكريم في أرجاء حراء: "اقرأ".. "اقرأ باسم ربك الذي خلق"؛ لتتنزل معه أولى ومضات الوحي الشريف على خير البرية، وخير خلق الله أجمعين: رسول الله، محمد صلى الله عليه وسلم.
بدأت حينها البشارة المباركة، ورجع بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى خديجة مرتجفًا فَزِعًا: "زمّلوني زمّلوني". فزمّلوه.. وذهب الروع، وطمأنته خديجة بالذي هو حق: "كلا، أبشر.. فوالله لا يخزيك الله أبدًا، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
وصدّقت أمنا رضي الله عنها، كيف لا وقد صدّقها الله من فوق سبع سماوات بوحي يُتلى، فقال: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة". كله أسوة، كل قول، كل فعل، كل طرفة عين. أسوة في القول الحسن، وأسوة في الصمت الجميل، وفي الحلم والعفو، وفي الرحمة، وفي الحياء، وفي أمانة العهد، وفي التواضع، أسوة في الشجاعة والجود والكرم وكل مكارم الأخلاق، فلا يسع الزوج إلا أن يعرف الرسول الزوج، ولا يسع الحاكم إلا أن يعرف الرسول العادل في حكمه، ولا يسع أي إنسان إلا أن يعرف الرسول الذي كملت خصاله في كل شأن.
فدعونا نلتقط طرفًا بسيطًا نتأسّى به، لنعلم كيف كان قدوتنا صلى الله عليه وسلم، وما ينبغي لنا التأسّي به، فهو الذي أخبرنا أن أقربنا منه مجالسًا أحاسِننا أخلاقًا، ومن أراد القُرب من حبيبه تشبّه به، فها نحن ذا.
الأقربون أولى
عن سعد بن هشام بن عامر، أنه أتى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فسألها: يا أم المؤمنين، أخبريني بخُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خُلقه القرآن، أما تقرأ قول الله عز وجل "وإنك لعلى خلق عظيم"؟ فقال لها سعد: فإني أريد أن أتبتل، فقالت: لا تفعل، أما تقرأ "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة"؟ فقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وُلِد له.
هكذا كانت سُنّة النبي: يتزوج وينجب، وهكذا كان خلقه: "القرآن". ولما كان القرآن يأمرنا بقول الله: "يَسأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُل مَا أَنفَقتُم مِّن خَيرٍ فَلِلوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ". كان من البديهي أن نرى نبينا خير الناس للأقربين، كيف لا وهو القائل: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي".
فقد كانت له عليه الصلاة والسلام إحدى عشرة زوجة، شهدن كلهن أنه كان حلو المعاشرة، وحسن التعامل، ومن ذلك حرصه على مجالسته إياهن ومؤانسته لهن في كل يوم، بل في كل صبح وغداة، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح جلس في مصلاه، وجلس الناس حوله حتى تطلع الشمس، ثم يدخل على نسائه امرأة امرأة، يسلم عليهن ويدعو لهن، فإذا كان يوم إحداهن كان عندها".
فإذا انقضى اليوم وانصرف تخبرنا أمنا عائشة أنه إذا انصرف من العصر "دخل على نسائه، فيدنو من إحداهن"، والدنو هنا يعني قُرب المُحب لزوجه من جلوس واستئناس ومحادثة وعاطفة، بل أبسط من ذلك وأجمل، فقد كان ينام في حجر زوجته فترة حيضها، ويتحرى مكان شربها ليشرب منه؛ ليزيل عنها كل مخاوف الجاهلية حين كان يتجنب الرجل زوجته في مثل هذا الوقت.
بل إن هذا البر قد امتد لمن توفى منهن في حياته، وخير شهادة في ذلك شهادة أم المؤمنين عائشة التي تروي لنا أنها ما غارت على أحد من نساء النبي كما غارت على خديجة، على الرغم من وفاتها، لا لشيء إلا لشدة بر النبي بها.
هذا كله فضلًا عن اصطحابه إياهن معه إلى الولائم والغزوات، وحلمه الشديد وصبره ورفقه، فهو الذي لم يضرب شيئًا بيده قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ومع كل هذا الإحسان كان في خدمة أهل بيته، فـكان يَخيطُ ثوبَه ويخصِفُ نعلَه ويعمَلُ ما يعمَلُ الرِّجالُ في بيوتِهم.
ومن كان هذا حاله مع أزواجه، فهو مع أبنائه أرفق وأبر، وقد علمنا صلى الله عليه وسلم كيف يكون الأب من اللحظة الأولى، إذ أحسن أسماء أبنائه، وتخير لبناته خيرة الرجال لزواجهن بعد مشورتهن.
وعن عائشة رضي الله عنها أنه كان يلاطف بناته ويمسح عن صاحبة الحزن حزنها، بل ولا يدعها حتى يضحكها، في حنان أبوي دافئ رفيق.