من يقرأ المشهد جيدًا يدرك أن الضفة المحتلة وصلت إلى مرحلة اللا عودة لسابق عهدها، وهو قبولها بالأمر الواقع القائم على التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال على حساب الفلسطينيين، الذين خرجوا عن طورهم وصمتهم على مدار العقدين السابقين بعد الانتفاضة الثانية، وما يحدث اليوم في الضفة هي مقاومة مسلحة أشد وطأة من الانتفاضة، تعبيرًا عن حالة الغضب الشعبي ضد سياسة القهر والإذلال والتهويد والاستيطان وكل ما يتعلق بالاحتلال، الذي أصبح عاجزًا عن احتوائها والقضاء عليها بسبب انتشارها السريع في كل محافظات الضفة دون استثناء، بالرغم من كل التطمينات لقدرته على إعادة الهدوء، لكن المقاومة في كل يوم يشتد عودها وتزداد ضراوتها، بل وفي كل مرة نرى أن العملية الفدائية أقوى من التي سبقتها.
لاشك أن استمرار المقاومة في الضفة المحتلة، أثبت فشل كل خطط وسياسات الاحتلال، والجهود الأمنية المكثفة بنشر كتائب عسكرية إضافية، والتنسيق الأمني مع السلطة على مدار الساعة، وتطبيق ما يسمى بـ"كاسر الأمواج"، و"جز العشب"، و"السور الواقي"، و”كيّ الوعي”، لكبح جماح المقاومة الضفاوية، التي وصلت إلى مرحلة يصعب السيطرة عليها، ليس النظر إليها من ناحية الخسائر المادية والبشرية فقط، ردًا على ما تفعله قوات الاحتلال يوميًا من ارتكاب المجازر وتدمير البيوت وتجريف المزارع، وإنما تندرج هذه العمليات الفدائية في سياق قيمتها النوعية والرمزية والتكتيكية على الناحيتَين الأمنية والسياسية، صحيح أن كثيرين ممن سلكوا طريق المقاومة في العامين الأخيرين باتوا إما شهداء وإما أسرى خلف القضبان، لكن هذا لم يفت من عضدهم.
فما يقلب حسابات الاحتلال هو تزايد أعداد المقاومين ومن الأعمار المختلفة، ونشاهد في كل يوم اندفاع أعداد جديدة من الشبان إلى طريق مقاومة المحتل ومستوطنيه، والسلاح لم يعد أمرًا صعبًا، فكل يقاوم بطريقته الخاصة، التي يفاجئ بها الاحتلال من الناحيتين المكانية والزمانية، وهو ما عبر عنه رئيس "الشاباك" السابق آفي ديختر بعد عملية الأغوار، بالقول: "نحن في موجة تصاعد للعمليات، وعملية إطلاق النار في غور الأردن، نجح منفذوها في تخطيطها وتنفيذها، ووجدنا أنفسنا في عملية مغايرة عن العمليات الأخرى، وتحمل عواقب وخيمة".
ولعل ما يقلق الاحتلال العمليات الفدائية المفاجئة التي تقع في مناطق يعدها هادئة أو عندما ينفذها جيل خارج حسابات الأمن سواء الفلسطيني أو الصهيوني، وأغلب العمليات التي تحدث لا تأخذ وقتًا كبيرًا في التفكير أو وقتًا من الاستعدادات، وكما يقولون "تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن"، والأكثر ألمًا للاحتلال أن يأتي الفدائي من وراء ظهرانيهم ومن خلفهم، بمعنى أن يكون ممن كان يعول عليه بإخلاصه في التعاون الأمني ضد أبناء شعبه، مثل منفذ عملية بيت أمر في الخليل مساء السبت الماضي، وهو الشهيد محمد رائد برادعية (23 عامًا)، أحد منتسبي الأجهزة الأمنية من بلدة صوريف، وسبق أن حذر أيضًا “الشاباك” قادته من خطر انخراط منتسبي الأجهزة الأمنية للسلطة في المقاومة، وإذا ما حاولنا معرفة السبب، فإن الفلسطيني في الضفة المحتلة أصبح يشعر بالخزي من الوضع السياسي الذي تمثّله السلطة الفلسطينية، والقيادات السياسية والأمنية فيها، بتقديس التنسيق الأمني وتخليها عن دورها الوطني والأخلاقي في توفير الحماية للشعب الفلسطيني بصد تغول الاحتلال، الذي يشيد بأدائها.