أنشأت دولة الاحتلال المارقة (إسرائيل) جيشًا توسعيًّا قوامه أفراد العصابات الصهيونية الإرهابية الأرغون والهاغانا والإيستل وغيرها من العصابات التي ارتكبت أفظع الجرائم والمجازر بأهالي القرى والمدن الفلسطينية لخدمة المشروع الصهيوني في فلسطين، وبعد ذلك تمّ إقامة أجهزة أمنية ومخابراتية إسرائيلية، وهي شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان"، المخابرات العسكرية، جهاز الأمن الداخلي "الشاباك"، المخابرات الخارجية "الموساد" الذي لم تنحصرمهمته بملاحقة المفكرين والأدباء والصحفيين والعلماء الفلسطينيين والفنانين واغتيالهم كالشهداء غسان كنفاني وماجد أبو شرار وناجي العلي والقائمة تطول، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك في ملاحقة الأدمغة والعقول العربية في كافة مناطق العالم واغتيالها وثمة شواهد كثيرة على ذلك.
اغتيال العقول والأدمغة العربية
لم تكتفِ (إسرائيل) بجرائم الاغتيال التي نفذتها ضد المناضلين الفلسطينيين الذين حفروا خنادق المعارك وخاضوها، وأخوتهم أنصار القضية الفلسطينية، بل تعدتها إلى ملاحقة الأدمغة العربية والعمل على تصفيتها حال سنحت لها الفرصة، لمنع أي محاولة للتحرر الفكري أو النهوض العلمي العربي.
ويمكن الجزم بان (إسرائيل) "الدولة" الوحيدة في العالم التي أعطت لعمليات الاغتيالات طابعاً مؤسسياً ، حيث أنشأت رئيسة وزراء (إسرائيل) السابقة غولدا مائير جهازاً متخصصاً بعملية الاغتيال "المجموعة إكس" وتمّ دعمها بأفراد من جهاز الموساد متمرسين على عمليات الملاحقة والاغتيال المتقن.
كانت الضحية الأولى لعمليات ملاحقة واغتيال الأدمغة العربية من قبل (إسرائيل)، العالمة المصرية سميرة موسى، حيث استجابت إلى دعوة للسفر إلى أمريكا في عام 1952، لإجراء بحوث في معامل جامعة سان لويس بولاية ميسوري الأمريكية، وتلقت عروضاً لكي تبقى في أمريكا لكنها رفضت، وقبل عودتها بأيام استجابت لدعوة لزيارة معامل نووية في ضواحي كاليفورنيا في الخامس عشر من شهر آب/ أغسطس، وفي طريق كاليفورنيا الوعر المرتفع ظهرت سيارة نقل فجأة؛ لتصطدم بسيارتها بقوة وتلقي بها في وادي عميق، قفز سائق السيارة ـ زميلها الهندي في الجامعة الذي يقوم بالتحضير للدكتوراة والذي اختفى ـ، لكن الدلائل أشارت إلى أن جهاز الموساد الإسرائيلي هو الذي نفذّ عملية الاغتيال، بسبب محاولة العالمة المصرية الاستفادة من التجارب الغربية في مجال علوم الذرة بغية التأسيس لخيار نووي في مصر والدول العربية الأخرى، حيث لفت انتباه الدكتورة سميرة موسى الاهتمام المبكر من قبل (إسرائيل) بضرورة امتلاك أسلحة الدمار الشامل وسعيها لامتلاك الخيار النووي، ولهذا أسست العالمة المصرية هيئة الطاقة الذرية بعد ثلاثة أشهر فقط من إعلان إنشاء (إسرائيل)، أي في شهر آب/ أغسطس من عام 1948.
ومن المفكرين والعلماء المصريين الذين تمّ اغتيالهم من قبل جهاز الموساد الإسرائيلي عالم الجغرافيا جمال محمود حمدان مؤلف كتاب "اليهود أنثروبولوجيا" الصادر في عام 1967،حيث تمت عملية اغتياله في 17 نيسان/ أبريل 1993، وكذلك مصطفى مشرفة عالم الفيزياء وأول عميد لكلية العلوم في مصر، وهو يُعد أحد القلائل الذين عرفوا سر تفتت الذرة وأحد العلماء الذين ناهضوا استخدامها في صنع أسلحة في الحروب، كما كان أول من أضاف فكرة جديدة، وهي إمكانية صنع مثل هذه القنبلة من الهيدروجين، إلا أنه لم يكن يتمنى أن تصنع القنبلة الهيدروجينية أبداً، ووصفه ألبرت أينشتاين بواحد من أعظم علماء الفيزياء في العالم. وفي 15 كانون ثاني/ يناير 1950، مات مشرفة إثر أزمة قلبية حادة، وثمة شك في كيفية وفاته فيعتقد أنه مات مسموماً بعملية مدبرة من قبل جهاز الموساد الإسرائيلي.
لم يتوقف مسلسل ملاحقة واغتيال الأدمغة العربية، ففي 13ـ 8 ـ1967 تمّ اغتيال عالم الذرة المصري سمير نجيب عبر حادث سير مدبر، بعد رفضه العمل في الولايات المتحدة الأمريكية وإصراره على العودة إلى مصر لخدمتها في مجال اختصاصه خاصة بعد نكسة حزيران/ يونيو 1967.
وقائمة الاغتيالات الإسرائيلية للعقول والأدمغة العربية لا يمكن حصرها في مقال مبسط، بل تحتاج إلى بحوث ودراسات وندوات عديدة وترجمتها ونشرها لمعرفة الصندوق الاسود لجهاز الموساد الاسرائيلي.
ماذا عن علماء العراق؟
في الوقت الذي كانت عيون الغرب شاخصة على القدرات المادية العراقية وخاصة النفط، إلا أن المتابع يلحظ بشكل جلي أن الهدف الخفي لاحتلال العراق هو اغتيال العقول والأدمغة العراقية وتالياً عدم نهضته العلمية والاستفادة من طاقاته العلمية والمادية ونهبها. ولهذا تغول الموساد الإسرائيلي بشكل ممنهج ومدروس في العراق بعد احتلاله من قبل الجيش الأمريكي في نيسان/ أبريل عام 2003، حيث قام بملاحقة واغتيال ووأد العقول وعلماء الذرة ومدرسي الجامعات والأطباء على امتداد الجغرافيا العراقية بغض النظر عن الانتماء الديني والإثني والعرقي للمستهدفين أو خلفياتهم الحزبية، وقام بتقتيل (5500) منهم، وقد نفذت (إسرائيل) عمليات الاغتيال المبرمجة في العراق بعد فشل الولايات المتحدة الأمريكية في إقناع الكثير من العلماء العراقيين العمل في المؤسسات الأمريكية والغربية بشكل عام .
وتجدر الإشارة إلى أن أمريكا والدول الأوروبية هي المستفيد الأكبر من وجود نحو (500) ألف عربي من حملة الشهادات والمؤهلات العليا حيث تستخدم قدراتهم في دعم مشروعاتها التكنولوجية.
وتشير دراسات متخصصة إلى أن 54 في المائة من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى الدول العربية؛ وثمة أسباب جوهرية لهجرة الأدمغة والكفاءات العلمية العربية إلى الغرب، في مقدمتها تركيبة النظم العربية وبغالبيتها ديكتاتورية وحكم مطلق لرأس النظام والذي أدى بدوره إلى تدني الموازنات العربية المخصصة للتعليم في جميع المستويات، ناهيك عن ضعف الاستثمار العربي في البحث العلمي، وعدم القدرة في توطين الخبرات والكفاءات العلمية العربية في الدول العربية ـ ونقصد هنا إنشاء مراكز بحث متخصصة لاستيعابهم، الأمر الذي يدفع الآلاف منهم للبحث عن فرص عمل في الدول الغربية، ويعتبر ذلك بمثابة اغتيال وتغييب للأدمغة العربية شأنها في ذلك شأن عمليات اغتيال الموساد التي طالت العديد من العلماء والباحثين العرب خلال العقود السبعة الماضية من عمر الاحتلال الصهيوني لفلسطين ويعتبر ذلك بمثابة الصندوق الأسود لأخطر جهاز أمن في العالم ولخدمة توجهات الغرب و(إسرائيل) في تجهيل المواطن العربي وجعل خيرات الدول العربية عرضة للسرقة والنهب من قبل الغرب صانع "الدولة" المارقة (إسرائيل) .