ما إن تصدح مكبرات الصوت بالابتهالات الدينية، والمدائح النبوية في الساحة القريبة من بيتها، تخرج ميادة جمعة مصطحبة أطفالها الثلاثة لحضور الأمسية الرمضانية التي تقام أسبوعيًا، وتجوب حارات مخيم الجليل للاجئين الفلسطينيين في مدينة بعلبك اللبنانية.
يجتمع لاجئو المخيم من الفلسطينيين للاستمتاع بهذه الأمسية والتي تقام فيها مسابقات
دينية، وتوزع فيها الهدايا، والحلويات، والألعاب التي تدخل البهجة على قلوب الأطفال.
الصحن الدوار
وقبيل دخول شهر رمضان تشترك جمعة مع جيرانها، لشراء أحبال الزينة وتعليقها في أزقة مخيم الجليل وبيوته، ابتهاجًا بالشهر الفضيل بالرغم من كل المنغصات وضنك العيش.
وتحرص جمعة على صنع طبق شعبي فلسطيني على مائدة الإفطار اليومية، لتشعر وكأنها في فلسطين، ولا سيما طبق "المحمر" أي المسخن، والذي يكون سيد الإفطار الرمضاني.
ولا يزال أهالي مخيم الجليل يحافظون على عادات رمضان التي تكاد تكون قد تلاشت في كثير من المدن الفلسطينية، منها عادة "الصحن الدوار" إذ تتبادل الأطباق اليومية مع جاراتها، ليأكل كل بيت في الحارة من ذات الطبق، وفق قولها.
ويتبادل الأهالي أيضًا الزيارات وصلة الأرحام، والجيران، والأصدقاء أيضًا، بالرغم من الأوضاع الاقتصادية الصعبة، والغلاء الفاحش الذي يطال كل شيء في لبنان، والذي قلّص العزائم الرمضانية حد التخلي عنها.
الغلاء لغى أطباقًا
وتقول جمعة: "أزمة الغلاء التي يعيشها لبنان ألقت بظلالها المأساوية على اللاجئين الفلسطينيين، الغلاء طال كل السلع إذ ارتفعت قبل شهر رمضان وتضاعفت مع حلوله، ما أثر على القدرة الشرائية لسكان المخيم والذين يعتمدون في الأصل على المساعدات".
وتلفت إلى العائلات استغنت عن أطباق يعد تجهزيها مكلفًا، فمثلًا طبق البطاطس المقلية، والفتوش هما رئيسيان على مائدة الإفطار تلاشيا اليوم، ومع الارتفاع الجنوني للدجاج واللحوم، أصبحوا يعدون الأكل دونهما، "حتى اللحوم البيضاء أو الحمراء لا تحضر على المائدة يوميًا".
وتبين أن هناك كثير من العائلات صارت تعتمد على أكلة المجدرة بالبرغل لأنه أرخص قليلًا من ثمن الأرز، ولم يعد يرافقها طبق السلطة فأسعار الخضار في ارتفاع مجنون، إذ ارتفع ثمن الخسّة الواحدة من 15 آلاف ليرة، إلى 40 ألف ليرة أي ما يعادل (2.5 دولارًا) عما كان عليه في العام الماضي.
وتوضح جمعة أن طبق الفتوش أساسي في وجبات الإفطار الرمضانية، ولكنه أصبح اليوم صعب المنال، إذ أن تكلفة صحن الفتوش بما يكفي لخمسة أشخاص تساوي 170 ألف ليرة، أي ما يعادل 11 دولارًا.
أما مشروب الجلاب الأشهر على المائدة الرمضانية في لبنان، فطاله الغلاء أيضًا، تذكر ميادة أنه سعره ارتفع من 25 ألف ليلة إلى 100 ألف ليرة أي معادل (6.5 دولارات) ومقطوع من بعض المحال لاحتكاره.
أما التمور فسعر العلبة بجودة متدنية 368 ألفًا (24 دولار)، ليتجاوز سعرها بجودة عالية الـ900 ألف ليرة أي ما يعادل (60 دولارًا).
مائدة مقدسية
وفي بيت آخر من بيوت مخيم الجليل، انشغلت اللاجئة الفلسطينية الهام منصور، في قلي شرائح البطاطس والباذنجان والجزر والبندورة، لتعد طبق المقلوبة الأشهر فلسطينيًا.
تقول منصور (44 عامًا) لـ"فلسطين: "بت أصنع أغلب الأكلات ومنها المقلوبة بلا مرق لحم، ولا حتى دجاج لتضاعف أسعارها، إذ ارتفع ثمن كيلو لحم الدجاج من 150 ألف ليرة إلى 900 ألف ليرة".
وتعيش منصور مع أربعة أبناء وزجها المريض الذي يعاني من كسر في عموده الفقري، وتضطر للخروج إلى العمل، من أجل توفير لقمة العيش لهم، فلديها ابنان أنهيا دراستهما الجامعية، ولم يتمكنا من الحصول على وظيفة، أو عمل ثابت.
وتبين أنها تعيش على مساعدات أهل الخير، والسلال الغذائية التي يوزعونها في رمضان.
صنف واحد
وتنبه منصور إلى أنها تعاني من انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه تام، لذا تضطر إلى الاشتراك في مولدات المخيم، لكي تتمكن من وصل التيار الكهربائي 5 ساعات في اليوم فقط، حيث يصل ثمن الاشتراك الشهري لقوة 5 أمبير لنحو 50 دولارًا.
وفي العادة تتفنن النسوة في صنع أكثر من صنف على وجبة الإفطار، لكن اليوم سفرة الإفطار في بيت منصور، كحال جميع بيوت اللاجئين الفلسطينيين بلبنان، أصبحت لا تحتوي إلا صنفًا واحدًا من الأكل، ونوع واحد من العصير إن توفر، واللحوم والدجاج تغيب عن الوجبات إلا ما ندر، ويستبدلونه بالعدس والبرغل، والأرز بماء دون مرق اللحم أو الدجاج.
ومع كل هذا الغلاء الفاحش، فإن لدى منصور حنين دائم لعيش أجواء رمضان في فلسطين والمسجد الأقصى، لذا تحاول قدر استطاعتها صنع الأكلات الفلسطينية التراثية كورق العريش (العنب)، والفتة، والمسخن.