أصوات دافئة تصدح، يرافقها قرع على طبلة يحملها رجل بلباس تراثي يخترق سكون ليالي رمضان، ليوقظ أهل مدينته لتناول طعام السحور، حيث بات المسحراتي طقسًا من الطقوس الرمضانية التي تمثل حنينًا للموروثات أكثر مما هو بحاجة للاستيقاظ على السحور في ظل التطور التكنولوجي بفعل وجود المنبهات الإلكترونية والهواتف الذكية.
وهو ما تعتقده ميسون عوض، إذ تشير إلى أن رمضان مرتبط بالكثير من الطقوس والعادات الرمضانية التي باتت تندثر شيئًا فشيئًا بفعل التطور التكنولوجي الذي يفرض نفسه على الناس، خاصة أن كثيرًا من الناس تبقى مستيقظة حتى حلول وقت السحور، إلى جانب أن كل الوسائل المنبهة متاحة للنهوض من النوم.
وتقول الأم لأربعة أطفال مستدركة: "ولكن للمسحراتي نكهة خاصة، أتذكر عندما كنت صغيرة أطلب من والدتي أن توقظني من النوم عندما يقترب من أمام البيت، وأحيانًا يجافي النوم عيناي وأنا أنتظره في أول أيام الشهر، وأطلب منها بعض طعام السحور لأقدمه له، وكان بعض الأطفال الصغار يخرجون معه ويرافقوه".
وتذكر عوض أنه بالمقارنة بين الواقع والماضي، لا يلتفت أبناؤها لتلك الطقوس والعادات التي كانت تنتظرها وإخوتها بفارغ الصبر.
موروث يفرض نفسه
وتعتقد عطاف حسنين أن مسحراتي رمضان من المهن الموسمية التي باتت تختفي تدريجيًا في ظل اعتماد الغالبية العظمي على منبهات هواتفهم الذكية، فباتوا لا يعتمدون عليه في إيقاظهم وكأنه شيء زائد عن الحاجة، ولكن مع ذلك فهو عادة تراثية تفرض نفسها بشكلها المتوارث لكونه عنصرًا أساسيًا من عناصر الأجواء الرمضانية.
وتشير إلى أنها أهلها في الماضي كانوا يعتمدون عليه في إيقاظهم، أما أمهات اليوم فلا يعتمدن عليه بالمطلق، وينتظرن صوت منبه الهاتف الذكي.
ويُقال إن سيدنا بلال بن رباح كان يطوف على البيوت ومعه شخص آخر لإيقاظ الناس، وفي مصر بدأ طواف المسحراتي على يد الوالي العباسي "إسحاق بن عقبة" عام 853 ميلادية وفي عصر الدولة الفاطمية تولى الجنود أداء هذه المهمة بعدما أمر "الحاكم بأمر الله" الناس أن يناموا بعد صلاة التراويح ومن ثم يمر عليهم الجنود لإيقاظهم.
وشهدت مهنة المسحراتي فترات تاريخية عديدة بين الانتعاش والركود، ففي العصر المملوكي قرر "الظاهر بيبرس" إعادة إنعاش هذه المهنة لكونها تراثاً إسلامياً، بعدها في عصر "الناصر محمد بن قلاوون" أي بعد مرور أكثر من نصف قرن أنشأت نقابة المسحراتية، ومنذ هذا الوقت استخدمت الطبلة كوسيلة يدق عليها باليد وليس بالعصا.
مهنة مهددة
من جهته يقول الباحث في التراث الفلسطيني حمزة العقرباوي، بالرغم من أن مهنة المسحراتي تعد من أبرز المهن الرمضانية وأكثرها شعبية، لكن هذه المهنة باتت مهددة بالانقراض رغم حرص الفلسطينيين على بقائها حية في البلدة القديمة بالقدس وحواري نابلس والخليل القديمة.
ويعتقد أن مشهد المسحراتي الذي يوقظ الناس لتناول طعام السحور في ليالي شهر الصوم، بطبلته الصغيرة التي يحملها بات قريبًا من الأفول، خاصة من انتشار الفضائيات، وسهر معظم الناس حتى ساعات الصباح الأولى في شهر رمضان واعتمادهم على الهواتف الذكية وتنبيه الساعات حتى وقت قريب.
وتذكر المراجع التاريخية أن المسحراتي يستخدم في أداء مهنته طبلة تعرف بـ"البازة"، إذ يُمسكها بيده اليسرى، وبيده اليمنى "سير" من الجلد أو خشبة، يُطبل بها في رمضان وقت السحور. و"البازة" عبارة عن طبلة من جنس النقارات، ذات وجه واحد من الجلد، مثبت بمسامير، وظهرها أجوف من النحاس، وبه مكان يمكن أن تعلق منه.
يوضح العقرباوي أن المسلمين في عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، كانوا يعرفون وقت السحور بأذان الصحابي بلال بن أبي رباح مؤذن النبي، ويعرفون موعد الامتناع عن الطعام بأذان الصحابي عبدالله بن أم مكتوم.
ويلفت إلى أن مهنة المسحراتي ظهرت في عصر الدولة العباسية، وبالتحديد في عهد الخليفة المنتصر بالله، ومع مرور الوقت، خصص رجل للقيام بمهمة المسحراتي، وكان ينادي: "يا أهل الله قوموا تسحروا"، ويدق على أبواب المنازل بعصا كان يحملها في يده.
ويبين العقرباوي أنه ومع تطور الأدوات الإيقاعية تطورت طبلة "البازة" التي يدق عليها المسحراتي دقات منتظمة، فاستعان المسحراتي بالطبلة الكبيرة التي يدق عليها في أثناء تجوله بالأحياء، وهو يشدو بأشعار شعبية، وزجل خاص بهذه المناسبة، ومن أشهر هذه الأشعار: "اصحى يا نايم وحد الدايم.. وقول نويت بكره إن حييت الشهر صايم والفجر قايم.. رمضان كريم".