بالرغم من كل مكابرته وغطرسته، أعلن نتنياهو تراجعه عن تنفيذ انقلابه القضائي، سواءً كان تراجعًا مؤقتًا أو دائمًا، تكتيكيًا أو استراتيجيًا، لكن ما حصل لا يسمى سوى تراجعٍ وخضوعٍ لما شاهده في الأسابيع الأخيرة من مظاهرات واحتجاجات عمّت دولة الاحتلال، من أقصاها إلى أقصاها، وتفاقمت من عدة آلاف متناثرة إلى مئات آلاف غير مسبوقة، فضلًا عن انخراط كل القطاعات الاسرائيلية فيها، وقبل ذلك وبعده الضغوط القادمة من الراعية الأكبر للاحتلال في واشنطن.
أيًّا كان خطاب نتنياهو الذي أعلن فيه تجميده لخطواته القانونية، فإن ذلك لا يمحو مسؤوليته عن أعمق أزمة في تاريخ دولة الاحتلال، كما أن المهلة التي أعلن عنها لن تعيد الثقة إلى حكومته التي ارتكبت كل خطأ محتمل، وتسببت بأضرار اقتصادية وأمنية ودولية بالغة، وكادت أن تدخل الدولة في كابوس الحرب الأهلية.
لم يعش نتنياهو لحظة انكسار طوال ولاياته الحكومية أكثر من لحظات إلقائه خطاب التراجع عن انقلابه القضائي، لأنه بعد أقل من ثلاثة أشهر على تشكيل حكومته السادسة، يعيش الكيان أعمق أزمة داخلية في تاريخه، ما يعرض مجتمعه واقتصاده وأمنه للخطر، بسبب انقلابه الذي أوصله إلى نقطة تصادم خطير يهدده بالانحدار إلى الهاوية.
اللافت أنه قبل يوم واحد من خطاب التراجع، أظهر نتنياهو في عرض مذهل انعدامًا للمسؤولية ومستوى غير مسبوق من الطيش، حين أقال وزير حربه، وأغرق الدولة في جنون العظمة، وردّ بكبرياء معروف عنه على الاحتجاجات العفوية الهائلة بوصفهم "أقلية متطرفة" من الرافضين والفوضويين الذين يمزقون الدولة، بالرغم من أنه متورط حتى أخمص قدميه فيما وصلت إليه هذه الأوضاع من التدهور، وكادت أن تفقد الدولة سيطرتها.
صحيح أن نتنياهو حاول أن يتقمص شخصية الحريص على الدولة، لكنه من الناحية العملية رفع الراية البيضاء، وبالرغم من أن مؤيديه سعوا لإظهاره بأنه اتخذ قرارًا صحيحًا وقياديًا ومسؤولًا، لكنه عبّر عن ضعف وتراجع لمن يسمي نفسه "ملك ملوك إسرائيل"، أمام إمكانية تصاعد المشاهد المؤلمة التي كان سيجنيها الإسرائيليون إذا أمعن في عناده ومكابرته.
لقد شهد الكيان أسابيع قليلة من التدهور الاجتماعي في الشوارع، وفقدان التضامن الاجتماعي وإجراءات سحق الاقتصاد، وتفكك المجتمع والجيش، والإقالة غير الضرورية لوزير الحرب، وإغلاق نصف الاقتصاد ووقف الرحلات الجوية، وحتى الخطوة الخطيرة المتمثلة بوقف الخدمات الطبية، واقتراب أصداء العاصفة من عصب الدولة التي سعت دائمًا للابتعاد عنه.
الخلاصة أن نتنياهو تراجع وخضع، وأدرك بعد طول مكابرة أن هناك "حدودًا للقوة"، صحيح أنه يملك شبكة أمان برلمانية في الكنيست، لكنها لم تسعفه لتحقيق ما يريد من أطماعه ومخططاته، وهذا درس لجميع الأقوياء، بأن هناك حدودًا لقوتهم، مهما عظمت!