في السابع من آذار/ مارس الجاري، اتخذ برلمان جنوب إفريقيا قرارًا بخفض العلاقات مع (إسرائيل) وإضفاء الطابع الرسمي على قرار سابق بسحب سفير جنوب إفريقيا من تل أبيب، والإبقاء على ملحق دبلوماسيّ فقط. وفي الشهر الماضي، جرى طرد الوفد الإسرائيلي من مؤتمر الاتحاد الإفريقي الذي عُقد في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، واضطرت رئاسة الاتحاد، بضغط من جنوب إفريقيا والجزائر، إلى إسقاط قرار سابق أيضا بمنح نظام الأبارتهايد الإسرائيلي مكانة مراقب في الاتحاد. وردّت وزارة الخارجية الإسرائيلية بلهجة غاضبة، واصفة القرار بأنه "مخزٍ ومشين".
يُشكّل هذا القرار والتوجه الآخذ في التنامي داخل الاتحاد الإفريقي صفعةً (لإسرائيل) ولاندفاعها، بل غزوها للقارة الإفريقية الذي وصل في السنوات الأخيرة إلى درجة خطيرة من التغلغل والتعاون مع جزء كبير من أنظمة ودول إفريقية، يصل عددها إلى نحو 40 من أصل 54 دولة، هي دول القارة. هذا لا يعني أن المعركة داخل الاتحاد الإفريقي حول العلاقة مع (إسرائيل) ستكون سهلة، فقد ارتبطت أنظمة إفريقية بعلاقات وصفقات واتفاقيات متنوعة المجالات، وخصوصًا الأمنية التي تستفيد منها أنظمة دكتاتورية وفاسدة في قمع شعوبها، أو في حروبها الداخلية. جرى كل ذلك في مناخ الانقسام الفلسطيني، وانهيار النظام العربي الرسمي، الذي فتك بالثورات التي سعت إلى التغيير وإلى فجر جديد.
قد يبدو قرار برلمان جنوب إفريقيا للكثيرين من أبناء شعبنا، خطوةً متواضعة وليست ذات أهمية خاصة، أو ذات تأثير حقيقي في الوضع الراهن، أو أنه لا يرقى لمستوى الرد على التحديات والجرائم التي يرتكبها نظام الفصل العنصري الاستعماري في فلسطين؛ وأيضًا مقارنة بحجم التوسع في العلاقات الأمنية والاقتصادية والدبلوماسية الإسرائيلية في القارة السوداء. وهذا أمر مفهوم، خصوصًا أن شعبنا وقوّاه الحية، يتعرضون على مدار اللحظة لمشروع كولونيالي إحلالي دون تدخل وحماية من أي قوة أو هيئة دولية.
عمليًا، هذه الخطوة مهمة ولكنها متواضعة، ليس فقط نظرًا لحجم الجرائم المرتكبة، بل بسبب أن التوقعات من دولة صديقة تحررت من نظام أبارتهايد تعاوَن معه النظام الصهيوني، يُفترض أن تكون أكبر وأكثر فاعلية، مثل قطع العلاقات بالكامل، وإغلاق السفارة الإسرائيلية في جنوب إفريقيا. غير أن الكثيرين ليسوا متابعين ولا ملمين بكيفية تطور الحالة الداخلية الصعبة في جنوب إفريقيا، على مستوى الطبقة السياسية الحاكمة وإخفاقاتها، وبما استجدّ على القضية الفلسطينية والطبقة السياسية التي هيمنت على النظام السياسي منذ توقيع اتفاقية أوسلو؛ إذ أشاعت اتفاقية أوسلو مناخا من الوهم والتضليل وكأن تحقيق العدالة والسلام بات وشيكًا، فكيّفت حكومة جنوب إفريقيا موقفها مع موقف سلطة أوسلو. ومن ناحية ثانية أيضًا، فإن الكثيرين غير مطلعين على حجم النشاط الهام والجهود الحثيثة التي تبذلها القوى الفلسطينية المدنية - حركة المقاطعة مثلا - للتصدي لهذا الزحف الصهيوني، وعلى المعيقات التي تقف أمام تحقيق إنجازات حاسمة في مجال المقاطعة. ففي العامين الماضيين كثفت حركة المقاطعة جهودها ليس فقط في جنوب إفريقيا، بل في العديد من دول القارة الضخمة بعدد سكانها وبمساحتها، ومواردها الطبيعية وحضاراتها.
في ظلّ هذا الوضع، فإن قرار برلمان جنوب إفريقيا، وطرد الوفد الإسرائيلي من مؤتمر الاتحاد الإفريقي، هو تطور هام. والمغزى من الإشارة إلى هذا التطور، ليس فقط للتنوير والتعريف به، إنما لنعلم ونتعلم، كيف تجري النضالات المدنية والثقافية التي تخوضها منظمات المجتمع المدني الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة المقاطعة - BDS، ونشطاؤها الفلسطينيون والأصدقاء من أحرار العالم، وهم الجنود المجهولون، والذين جميعًا كان لهم مساهمة حاسمة في دفع منظمات حقوق إنسان دولية، لإصدار تقارير هامة تدين نظام الأبارتهايد في فلسطين، بل إلى دفع مؤسسة منظمة التحرير الفلسطينية مؤخرًا، ومن خلال دائرة خاصة، إلى تشكيل أول مؤتمر لمناهضة الفصل العنصري الذي عقد في رام الله يوم 11/12/2022، بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني الفلسطينية، التي أطلقت نداء المقاطعة الشهير عام 2005.
لقد ساهمت حركة المقاطعة في إنشاء حركة مقاطعة محلية في ذلك البلد الإفريقي عام 2015، بهدف إحياء فكرة المقاطعة والدفع لإعادة موضعة جنوب إفريقيا في سياق الدول التي تحارب الأبارتهايد والاستعمار. وكان للناشط والعضو المؤسس للحركة، عمر البرغوثي، زيارات عدة لذلك البلد، حيث ألقى المحاضرات والتقى الناشطين وقيادات من الحزب الحاكم، بهدف إعادة تفعيل إستراتيجية المقاطعة. وتبعه في الزيارات والنشاطات والاتصالات، نشطاء فلسطينيون آخرون، إما أعضاء في الحركة أو من أطر مدنية أخرى.
ونقل البرغوثي وآخرون، من هناك، معلومات عن العائق الأساسي أمام التقدم نحو اتخاذ قرار رسمي بمقاطعة (إسرائيل)، ألا وهو موقف السلطة في رام الله، التي لم تكن ولا تزال ضد قطع العلاقات مع (إسرائيل)، ظنًا منها أن هذه العلاقة توفر الإمكانية لحكومة جنوب إفريقيا بممارسة الضغوط على (إسرائيل)، ولجم توحشها ضد شعبنا الفلسطيني.
في إحدى الزيارات التي قمتُ بها لجنوب إفريقيا، وبدعوة من مؤسسات وأطر مختلفة في الأعوام 2008 إلى 2016، وحينما احتد النقاش مع أحد قادة المؤتمر الإفريقي - ANC، والذي كان يشغل آنذاك نائب وزير، وبحضور قادة آخرين منهم روف ميير، الذي كان المفاوض الرئيسي باسم نظام الأبارتهايد البائد، وانضم إلى المؤتمر الوطني الإفريقي بعد سقوط النظام، وكذلك مع سفير جنوب إفريقيا السابق في تل أبيب، إسماعيل كوفاديا، حول جدوى ولا أخلاقية الحفاظ على العلاقة مع (إسرائيل)؛ اضطر الوزير أن يتوجه إليّ بنبرةٍ فيها مرارة وحسرة: هل تعرف من هو المسؤول الحقيقي؟ مكملا حديثه: "إنها السلطة الفلسطينية". وكشف لي أنه في عام 2014، أثناء العدوان الصهيوني الدموي على قطاع غزة، تشاورت حكومة جنوب إفريقيا مع السلطة بخصوص طرد السفير الإسرائيلي، غير أنها رفضت ذلك التوجه.
اليوم، وبفضل تلك الجهود التي تخوضها حركة المقاطعة، وبسبب الجرائم الصهيونية، واستمرار انزياح (إسرائيل) نحو الفاشية الصريحة وانفضاحها عالميًّا، وبطبيعة الحال بفضل المقاومة الشعبية الفلسطينية على الأرض، بدأت اللغة تتغير، والخطاب يتبدل، من لغة وخطاب النزاع إلى خطاب الأبارتهايد والاستعمار، وبدأ هذا الخطاب يُترجَم إلى خطوات فعلية، التي لا تزال ذات تأثير رمزي وأخلاقي، ولكنها في طريقها إلى التحول إلى تأثير سياسي واقتصادي.
يقول النشطاء في حركة المقاطعة إن التحولات في الخطاب والمقاربة للمشروع الاستعماري الصهيوني، لم تترك مجالا للأوساط المحافظة داخل منظمة التحرير سوى مواكبة هذا التطور، والبدء بالتحرك بالتنسيق والتشارك مع الحركة، وجرى التعبير عن ذلك في البيان الصادر عن المؤتمر الذي عُقد في رام الله قبل ثلاثة أشهر، ويُعتبر ذلك خطوة مهمة في مسار ضروري طويل لا يحتمل التردد والتذبذب، في إطار المواجهة الأيديولوجية والسياسية الحازمة في ساحة شعوب العالم والمؤسسات الدولية.
والأهم، أن هذا دليل على ضرورة وأهمية وقدرة الحراكات المدنية والشعبية من خارج الأطر الرسمية المتهالكة، على إحداث التغيير وفتح أفق حقيقي أمام مسيرة النضال والمواجهة مع نظام عدواني مارق، في كافة الميادين، في إطار الكفاح من أجل الحرية والتحرّر والعدالة.