فلسطين أون لاين

آخر الأخبار

الاتفاق السعودي الإيراني.. ما مشكلة هذه المنطقة؟

قيل الكثير، وسيُقال أكثر، عن الاتفاق السعودي الإيراني بوساطة صينية، وبالرغم من أنّ أكثر ما قيل لن يخلو من الوجاهة التفسيرية لهذا الحدث المهمّ، إلا أنّ قدرًا من الغموض لا يزال يفرض نفسه، تحديدًا بسبب غموض الموقف الأمريكي من الاتفاق المحمول على وساطة صينية تنفذ إلى الساحة الأمريكية الرئيسة في المنطقة المسماة "الشرق الأوسط"، ثمّ بعد ذلك التباس الحدود التي تفتح المجال لهوامش التحرّك المنفرد في قضايا كبرى لدول ظلّت حدود مساحاتها الخاصّة في علاقاتها بالولايات المتحدة محلّ جدل تاريخيّ.

معرفة هذه المساحات، من حيث موقعها العضوي في بنى أنظمة تلك الدول، ثمّ ما طرأ عليها من تغيرات في السنوات الأخيرة، أمرٌ ضروريٌّ لمحاولة تفسير تصرّفات تلك الدوّل، لكنّ هذا الغموض بدوره قد لا يكون أكثر من انعكاس لحقيقة التراجع الأمريكي الداخلي الذي كان تجلّيه الأكبر بصعود الظاهرة الترامبية، والخارجيّ بارتباك اليد الأمريكية على خيوط اللعبة الدولية، هذا التراجع الخارجي بالضرورة سيعود بالسؤال عن الصين، لا من حيث كونها الدولة الأهمّ المؤهّلة لمزاحمة النفوذ الدولي للولايات المتحدة مستقبلًا، ولكن من حيث المصلحة الراهنة لها في إلقاء ثقلها، واستثمار علاقاتها القويّة مع البلدين، في هذا التوقيت بالذات.

الانتباه إلى التوقيت عنصر مهمّ في تقدير الاحتمالات، ليس بالضرورة الراجحة فحسب، ولكن تلك التي تبقى قائمة مهما ضَعُفَ رجحانها، بما ينبغي أن يمنع من الغفلة عنها، فالصين التي لم تتخلّ بعد عن سياساتها الدولية الحذرة والمحافظة، ولم تزلْ تستند إلى العامل الاقتصادي في علاقاتها الدولية، ليست في وارد المزاحمة المبكرة للولايات المتحدة في مناطق نفوذها التاريخية والإستراتيجية، ما يعني أنّها كانت بدفعها نحو هذا الاتفاق، مستعجلةً لأجل حماية مصالحها الاقتصادية في الخليج، الذي تشتري منه أكثر من ثلث وارداتها النفطية، وترتبط مع دوله العربية بتبادل تجاري يتجاوز 163 مليار دولار، فضلًا عن إيران التي يبلغ حجم تجارتها مع الصين 15 مليار دولار، ما يعني أن نشوب حرب في الخليج سيمثّل في جانب منه نوعًا من الحصار الاقتصادي للصين، وهو ما يبقي الظنّ قائمًا بكون الصين كانت ترى خطرًا محتملًا في الخليج من شأنه أن ينعكس بالضرر على صعودها الاقتصادي.

هذا الاتفاق من جهة أخرى يزيد مشكلة هذه المنطقة وضوحًا، إذ لا يمكن تفسير الاتفاق بكونه جزءًا من تصفير دول المنطقة لمشاكلها، كالمصالحات السعودية والقطرية والإماراتية والتركية، إذ كلّ المصالحات تنمّ عن تحوّلات مؤقّتة، تهدف إلى عبور لحظة تتسم بالغموض والقلق، ومن ثمّ يمكن النظر إلى آخر عشر سنوات، من التحوّلات في العلاقات البينية، بين دول المشرق العربي وبين بعضها والدول الإقليمية الأصيلة كتركيا وإيران أو الطارئة كـ(إسرائيل)، إذ ليس ثمّة ثوابت في هذه العلاقات إطلاقًا.

في المقابل تتّسم العلاقات الغربية البينية، كدول أوروبا مثلًا فيما بينها أو علاقاتها بالولايات المتحدة، أو علاقة هذه المنظومة بحلفائها في شرق آسيا كاليابان وكوريا الجنوبية، أو علاقاتها بـ(إسرائيل)، بثبات واضح؛ بالتأكيد لا يلغي ما يمكن أن ينجم بالضرورة عن أي تدافع اجتماعي من تباينات وتناقضات تمكن إدارتها وتنظيمها، والتفاهم الضمني عليها، لكن هذا الأمر غير حاصل في هذه المنطقة بالقدر المعقول والآمن، فهل ثمّة تفسير سوى ثلاثة عوامل خارجية متضافرة، لا تنفكّ عنها العوامل الداخلية المتعلقة بالمنطقة وبكل دولة منها في ذاتها؟!

لا يمكن عزل هذه الحالة المزرية من انعدام الثوابت في السياسات الخارجية بين دول المنطقة، عن كون المنطقة قد تشكّلت سياسيّاً أصلًا بفعل الاستعمار القديم، الذي هو دون العالمين، من يتمتع برؤية أكثر وضوحًا واستقرارًا وثباتًا، ثمّ بعد ذلك، جاء الاستعمار الجديد بأقنعته الخاصّة، ممثلًا في الولايات المتحدة ومستخدمًا سياسات خلخلة الاستقرار ليبقى ضامن إدارة الأزمات فيها، وأخيرًا هل ستكون (إسرائيل) شيئاً آخر سوى أهمّ أدوات الاستعماريْن القديم المؤسّس لـ(إسرائيل) والمشكّل للمنطقة سياسيًّا، والجديد الراعي الأكبر لـ(إسرائيل) والضامن الأهمّ لوجودها، في الحيلولة دون صعود عربي إقليمي معتبر، وفي تدبير النزاعات المستمرّة فيها، وهو ما يتطلب بدوره أن تبقى (إسرائيل) الدولة الإقليمية الأكثر تطوّرًا وتقدّمًا والأحسن تسليحًا؟!

بالتأكيد ثمّة أسباب أخرى داخلية، في كل من الدول العربية الأكثر ثقلًا في المنطقة، إذ لا يكاد يُذكر منها اليوم سوى السعودية، بعد تحطيم كلّ من العراق وسوريا والتراجع المزري لمصر، وبين هذه الدول والدول الإقليمية الأخرى الأكثر أصالة، لكن القضية ليست بهذا التعقيد من حيث التصوّر الذهني، وإن كانت معقّدة بالفعل في الواقع العملي، فالخشية من التمدد الإقليمي الإيراني، وأنماط هذا التمدّد وأدواته، تحتاج بناء ذاتيًّا قادرًا على المنافسة الإقليمية، المحمولة على التعاون والصداقة مع الدول التي تقبل ذلك، والثقل الذي يكبح أيّ تمدّد يتسم بالعدوانية، وهذا لا يمكن دون تصفية العامل الذي يحول دون القدرة على البناء الذاتي، وخلق تكتل عربيّ، وإنشاء تصورات ثابتة للعلاقات الإقليمية، وهذا العامل المباشر هو (إسرائيل)، إذ إنّ معالجته الجذرية هي بوابة التخلص من هذا التاريخ الاستعماري الطويل والممتدّ حتى اللحظة.

إن كان الأمر كذلك، وهو كذلك بالفعل، من حيث حرص مستويات الاستعمار وتمثّلاته سالفة الذكر، على بقاء النزاع قائمًا في المنطقة، وبما يمنع أيّ صعود عربيّ معتبر، ويضمن الديمومة للتفوّق الإسرائيلي، فإنه لا يمكن، والحالة هذه، السعي لتحقّق الذات العربية، أو لأيّ دولة عربية ثقيلة إقليميًّا ودوليًّا بالتعويل على هذا الاستعمار، أو بالتحالف مع (إسرائيل)، بل بالقطع مع ذلك كلّه، ودعم القضية الفلسطينية أي أنّ العرب ليسوا فقط أولى من غيرهم بالقضية الفلسطينية، ولا أنّ ما تلقيه عليهم هذه القضية من واجب لا يمكن أن يسقط بالتقادم فحسب، بل إنّ مصلحتهم المباشرة تتمثّل في استثمار هذه القضية بما لا يتناقض مع عدالتها وثوابتها التأسيسية.

ذلك بالنسبة للوعي الاستراتيجي لحقيقة هذه المنطقة، التي سعى الاستعمار لجعلها تاريخيًّا منطقة عازلة من حول (إسرائيل)، ومن ثمّ استمرار تبعية المنطقة، وتأبيد الخوف والقلق فيها لمنع أيّ تلمّس عربي ذاتيّ لطريق خاصّة، وإذا كان من المبكّر للغاية، توقّع أن هذا الوعي الإستراتيجي حاضر بإلحاح وبسويّة واحدة بين جميع أنظمة الحكم العربية، إذ لم تزل تكشف الأحداث أن بعض هذه الأنظمة لا ترى لها من دور سوى القيام بدور القوى العازلة من حول (إسرائيل)، فلا شكّ أنّه حتى بالوعيّ الذاتيّ الأخصّ، تدرك دول الخليج أنها قد تكون دافع الثمن الأكبر في أيّ مواجهة إسرائيلية مع إيران، أكثر من (إسرائيل) نفسها، وهذا كافٍ لتحوّل أكثر معقولية في السياسات الإقليمية.

المصدر / عربي 21