أينما نزف الجرح الفلسطيني على امتداد الأرض المحتلة، كانت الإعلامية الفلسطينية تضمد جراح أبناء شعبها بنقل الحقيقة، وإظهار صورة صموده وتمسكه بأرضه، على الرغم من كل ما يواجهه من اعتداءات إسرائيلية لا تتوقف.
وبينما يحتفل العالم بيوم المرأة العالمي في الثامن من آذار، تواصل الإعلامية الفلسطينية تأدية رسالتها المهنية الوطنية، وتثبت بجدارة أنها حارسة الحقيقة، فدفعت ثمنًا غاليًا في أثناء أداء رسالتها المهنية وكشف جرائم الاحتلال.
لم يكن يوم الخميس (26 يناير/ كانون الثاني 2023) الذي عاشته الصحفية بمخيم جنين ياسمين حنتولي عاديًا، عندما أيقظتها رسالة هاتفية تفيد باقتحام قوات الاحتلال مدينة جنين ومخيمها، ارتدت ملابسها على عجلٍ، وانطلقت نحو منطقة الاقتحام التي نتج عنها مجزرة استشهد في إثرها 11 مواطنا.
يتحرك المشهد الدامي أمامها مرةً أخرى متحولا لنافذة تطل بها على الحدث، تقول حنتولي لصحيفة "فلسطين": "كان جنود جيش الاحتلال ينتشرون في كل مكان، كنت أسمع أصوات صراخ الشباب، استغاثتهم للإسعافات لحظة الإصابات، الدماء تنتشر في كل مكان، الأمهات تصل للمستشفى الحكومي في جنين، لم أستطع التقدم خطوة من كثرة النار".
تغطية غير مسبوقة
غطت حنتولي الكثير من أحداث اقتحام جيش الاحتلال للمخيم، لكنها لم تعهد مثل ذلك اليوم، ترسم صورة أخرى للحدث: "الكل كان مستهدفا، سواء المواطن أو المسعف أو الصحفي، حتى أن جيش الاحتلال ألقى القنابل داخل المشفى، لم أعش تغطية في حياتي المهنية مثلها".
تستحضر بقية المشهد: "فجّر الجنود نادي المخيم الذي يحدث به تأبين الشهداء، والسيارات بداخله، شعرت بالخوف أن أرى شخصا أعرفه من بين الشهداء".
رغم أنها كانت تسجل التغطية من قلب الحدث، فإن هول المشهد حال دون تمكنها من الخروج برسالة إعلامية، تقفز أمامها تلك المشاهد: "كنت أسمع أصوات التفجيرات، أرى جنود الاحتلال، المقاومون يركضون، بيوت مهدمة، لكني لم أستوعب ما يجري لأقدم رسالتي".
لا تنتهي التغطية بانتهاء الحدث، فأصوات الرصاص وبكاء الأمهات تلاحق الصحفيات حتى في منامهن، وهو ما عاشته الصحفية ابنة جنين "الناس ترى الصورة صورة، لكنني أراه مشهدًا كما التقطته، تلاحقك صور الوجوه المتفحمة، وأصوات المصابين".
ترتدي ياسمين خوذة ودرعًا زرقاوين يتوسطهما مربع أبيض داخله كلمة "PRESS" يضمنان لها وفق القوانين الدولية العمل بحرية في نقل الحقيقة، لكن خلال التغطية الوضع مختلف، "أتمنى الشعور بالأمان، فالوضع المسيطر أنه يمكنني العودة على أكتاف الناس لعائلتي، في مرة كان أمامنا قناصة فرفعت يدي للأعلى لكنهم أصابوا زميلا بقربي".
في مشهد آخر لم يتوانَ قناص إسرائيلي في إطلاق النار على معدات صحفية لياسمين وزملائها في أثناء إحدى التغطيات، ومنعوا جنود الاحتلال سيارات الهلال الأحمر الفلسطيني من التقدم نحوهم، وحتى النوم على فترة واحدة لا يستطيع الصحفي في جنين الحصول عليه، تقول: "ننام على العاشرة مساء، لكننا نستيقظ على الواحدة فجرا أو الثانية أو الرابعة وهذه مواعيد تتكرر فيها اقتحامات جيش الاحتلال".
اقرأ أيضاً: تقرير شيرين أبو عاقلة.. «أيقونة الصحافة» شاهدةٌ وشهيدة وصوت لم يغادر الذاكرة
دوّى صوتُ الشريط الأحمر لخبر عاجل أسفل شاشة قناة الجزيرة صبيحة 11 مايو/ أيار 2022، ولأول مرة منذ ربع قرن لم يقل المذيع: "معنا مراسلة الجزيرة في الأراضي الفلسطينية شيرين أبو عاقلة" هذا الصوت الذي لم يغب عن ذاكرة المشاهد الفلسطيني، فقد كانت هي الخبر العاجل.
شاهد وشهيدة
بالنسبة للصحفية شذا حنايشة مجرد العودة إلى ذلك اليوم والحديث عنه مرة أخرى أمر متعب لكنّ البحث عن تحقيق العدالة لشيرين يجبرها في كل مرةٍ على الإدلاء بشهادتها.
في ذلك اليوم، أيقظها صوت رنين هاتفها، الساعة الخامسة والنصف صباحًا، من زميلها مجاهد السعدي، يخبرها أنّ جيش الاحتلال اقتحم مخيم جنين، وهذه عادة بين الزملاء الصحفيين في فلسطين، بالاتصال ببعض والتواصل الدائم في حال حدوث شيء.
تعود بذاكرتها مرة أخرى، تروي لصحيفة "فلسطين" تفاصيل حدثٍ ما زالت تتجرع ألمه في كل شهقة وزفرة، وكل صباحٍ ومساء: "لم تكن معي سيارتي، فأرسل مجاهد لي واحدة لمنزلي ببلدة قباطية قضاء جنين، وعندما وصلت أخذت الدرع والخوذة من مركبة مجاهد حيث أتركهما معه في حال حدث اقتحام".
"تجمّعنا على دوار العودة بالمدخل الغربي للمخيم، فوصل طاقم الجزيرة ومن بينهم شيرين أبو عاقلة، وارتدينا زي الصحافة، وتحركنا تجاه الشارع الرئيس ثم نحو الشارع الفرعي، وهناك مكان وجود مركبات جيش الاحتلال"، تكمل.
تحركت شذا، ومجاهد، وعلي، وشيرين، وخلفهم مجدي بنورة وصحفي آخر، تقف على نوافذ الذاكرة لتطل على الحدث: "كنا نتحدث معًا، نضحك نمزح، نسير بهدوء، وعدم خوفٍ أو قلق، وحين وصلنا بالقرب من مصنع صغير سمعنا صوت الرصاصة الأولى تضرب بالحائط في تلك اللحظة".
قفز مجاهد من شباك مفتوح في حائط المصنع، وصرخ: "الرصاص علينا، الطخ علينا، وطلب منا اللحاق به"، قلت له: لا أستطيع لأنني أرتدي الدرع الواقية من الرصاص، فأعاقني عن القفز، هذا كله والرصاص ما زال يُسمع حولنا".
تأبى أدق تفاصيل الحدث أن ترحل من ذاكرتها: "استدرت نحو شيرين وعلي، فأخبرتني شيرين أنَّ عليًّا أُصيب، فلم أره لحظة إصابته، ووصلت من جانب النافذة إلى خلف الشجرة وحتى الآن لا أستطيع التذكر كيف وصلت للشجرة، نظرت نحو شيرين لأتأكد من وصولها إلى جانبي حينها رأيتها تسقط على الأرض".
ما زال صوت الرصاص يُدوّي في ذاكرتها المثقلة بالتفاصيل المؤلمة: "في كل مرة كنت أحاول فيها الوصول إلى شيرين أو مدّ يدي، كان هناك رصاص يُطلَق نحوي، لكن عندما لم تتحرك، أدركت أنها أُصيبت، لم أعلم مكان إصابتها ثم أعلن استشهادها".
وقبل أن تخرج في نشرتها الإخبارية الأولى على راديو "دريم" قُتل حلم الصحفية "غفران وراسنة" برصاصة غدر أطلقت من سلاح جندي إسرائيلي اخترقت جسدها، لترتقي في الأول من يونيو 2022، لتكون الشهيدة الثانية بعد أبو عاقلة.
لا ضمانات
لم يقتصر عمل الصحفية على الشعور بالخوف من القتل، ولم تكن شاهدة فقط، بل أصيبت عشرات الإعلاميات خلال تغطيتهن الصحفية في خطوط المواجهة بالضفة. فالصحفية شادية بني شمسة (23 عامًا) من نابلس، أصيبت بقدمها قبل عدة أشهر بقنبلة غاز، في حين لم تستطع حصر حالات الإغماء والاعتداءات بالدفع التي تعرضت لها.
اقتحام مفاجئ لجيش الاحتلال لقمة جبل "صبيح" في بلدة بيتا جنوب نابلس، العام الماضي الساعة الحادية عشرة ليلاً، حتم على شادية تجاوز عامل الوقت والنزول للميدان لنقل الحقيقة رغم خطورة الأمر.
عاشت بني شمس ليلة صعبة ترويها لصحيفة "فلسطين" قائلة: "كنت أرتدي الدرع والخوذة، وأصور الاقتحام، وفجأة خرج جنود جيش الاحتلال، ودفعوني واحتجزوني بمنطقة بعيدة عن المواجهات، وصادروا هاتفي وحققوا معي على صور شهداء كنت قد التقطتها سابقًا، وقد توقعت أن أقتاد للسجن قبل الإفراج عني".
كما غطت الصحفية ياسمين حنتولي مجزرة جنين واختارتها أصعب تغطية، عاشت حدثًا مشابها، بتغطية مجزرة نابلس في 22 فبراير 2023 عندما توغل جيش الاحتلال في المدينة.
يوم دامٍ يجثم على ذاكرتها: "كان جنود جيش الاحتلال يطلقون النار مباشرة على الصحفيين، عندما وصلت إلى مكان المواجهة لم أستطع الوصول لزملائي الصحفيين، ومكثت في مكان غير آمن، كنت أبحث عن النجاة من شدة المواجهة".
تصف بني شمسة حياة الصحافية الفلسطينية بأنها "خالية من الضمانات"، فلا شيء يضمن لها أن تعود سالمة لعائلتها، فالرصاص المنطلق من بنادق جنود الاحتلال حي لا يفرق بينهن، مستشهدةً باغتيال "أبو عاقلة".