مما استقر عليه العالم، منذ ما قبل التوافق على تسميته بـ«العالم المتحضر»، أن الاعتداء على المدنيين كان «عيباً» أخلاقياً لا يليق بسلوك «الفارس» الذي كان عليه ألا ينازل إلا فارساً مثله.. ونذكر الخليفة الراشدي الأول أبا بكر الصديق، حين وجه قواته السائرة إلى الفتح ألا يقطعوا شجرة ولا يقتلوا امرأة أو شيخاً، وكان هذا بداية الحضارة في عدم تدمير أهداف مدنية، أو استهداف مدنيين في أثناء النزاع المسلح. وتمّ تقنين هذه الأخلاقيات في نصوص اتفاقيات دولية، مثل اتفاقيات لاهاي عام 1907، واتفاقيات جنيف عام 1949 وما بعدها من أحكام تذكر أن الاعتداء على المدنيين جريمة يعاقب عليها القانون، والاعتداء على الأهداف المدنية دون ضرورة عسكرية «مطلقة»، يعد من الكبائر في القانون الدولي. فهل استهداف المستوطنين الإسرائيليين اعتداء على مدنيين؟
حسب البيان الرسمي الصادر عن وزارة الخارجية الأردنية بتاريخ 28/1/2023، قالت الوزارة: «إن الأردن يدين الهجوم الذي استهدف مدنيين في كنيس» بشرقي القدس، وحفاظاً على «الموضوعية» أضاف البيان أنه يدين كذلك العنف ضد المدنيين الفلسطينيين، وما يهمنا هو الشق الأول من البيان. ولم تكن وزارة الخارجية وحدها من أدان الاعتداء على المستوطنين واعتبارهم مدنيين؛ إذ شاركتها في ذلك منظمة العفو الدولية، وبعض المسؤولين في الدول الأجنبية. لا نستغرب أن تصدر مثل هذه التصريحات من دول بعيدة عن أرض الصراع، ولكن نستغرب أن يصدر عن توأم فلسطين ـ الأردن- لعلمه اليومي بما يقوم به المستوطنون داخل الأراضي المحتلة بما فيها شرقي القدس. والسؤال الذي يستحق الإجابة عنه هو: هل أن المستوطن شخص «مدني» لا يجوز الاعتداء عليه أو استهدافه من المقاومة الفلسطينية؟
علينا بداية أن نحدد من هو «المستوطن» وهل هو «مدني» بما يحصّنه ضد الاعتداء عليه ويتمتع بحماية القانون الدولي والأعراف الدولية؟ والواقع أن المستوطن يبدو «مدنيا» في الظاهر، إلاّ أنه في الواقع ليس «مدنياً» بأي معيار سوى أنه لا يلبس الزيّ العسكري. هو عسكري يمارس أشدّ أنواع العنف شراسة ووحشية، وأحياناً بسلاح مرخص. وتقوم الدولة بإغراء المستوطن لكي يقطن في الأراضي المحتلة بتقديم قروض ميسرة له، وغالباً دون فوائد، وإذا استوطن في مناطق تبعد أكثر من 20-25 ميلاً عن المدن في (أراضي 1948)، فإن الإغراءات التي تقدمها الدولة تصبح أكثر لتشجيع المستوطن على استعمار المناطق المحاذية للتجمعات الفلسطينية، وخدمة المستوطن في حراسة المستوطنة التي يستعمرها، تعتبر جزءاً من خدمته المعتادة في الجيش.
والمستوطن يقوم بسرقة الأرض من أصحابها الشرعيين ويقيم سلطته عليها بقوة السلاح، وتدعمه في ذلك كل أجهزة الدولة، سواء من الجيش أو من وزارات الخدمات الأخرى.
ويشكل المستوطنون «وحدات أمن»، وهي الوحدات التي ساعدت الجيش في التصدي للفلسطينيين أثناء الانتفاضة الثانية، حتى إنه في تلك الفترة، قام الجيش بإخلاء بعض قواعده، وانتقل للسكن في المستوطنات.
وتجدر الإشارة إلى ما قاله يغال آلون من أن «دمج المستوطنات المدنية في نظام الحماية الإقليمي، ولا سيما في المناطق الحدودية.. سوف يؤدي خدمات للدولة من أن تصبح أبراج مراقبة متقدمة، وتوفر على الجيش جنوده»، وأن المستوطنات قادرة على صد أي هجوم يقوم به العدو أو تعرقل تقدمه.
نعلم الآن أن (إسرائيل) باشرت بتشكيل «مليشيات المستوطنين»، وربما كانوا هم من اقتحم قرية حوارة، الأسبوع الماضي، كما أنهم هاجموا قرية بورين بعد حوارة.
ويبدو أن هذا هو الشكل الجديد لعمليات التطهير العرقي، فقد كانت في عام 1948 عمليات تهجير جماعية، والآن أصبحت عمليات إرهاب شديد الوطأة على المدنيين ما يحملهم على الهجرة وإفساح المجال للمستوطنين، لكي يستعمروا هذه القرى المهجورة، كما حدث في عام النكبة.
إن السجل الدموي للمستوطنين يضيق على مجال مقالة كهذه، إلا أن هناك وثائق وسجلات رسمية وحيادية تثبت أن المستوطن ما هو إلاّ مقاتل وكأنه في عداد الجندي، من دون أن يظهر بمظهر الجندي في الزي الرسمي. ويجب أن لا نقف عند المظهر المدني، الذي يبدو عليه المستوطن، بل نرى ونوثق ما يقوم به هذا «الجندي باللباس المدني». هذا الواقع يفرض على المقاومة الفلسطينية أن تتصدى للمستوطنين والتعامل معهم بصفتهم عناصر مقاتلة، ويجب أن لا يخدعها المظهر المدني. وتصرف المقاومة يكون تصرفاً مشروعاً تسنده السوابق القضائية الدولية.
لقد طور القضاء الإنكليزي منذ أواخر القرن الثامن عشر مبدأ في القانون الدولي، عرف بمبدأ «الرحلة المستمرة»، أو «الوجهة الأخيرة للرحلة»، وقد ساير القضاء الألماني والفرنسي والإيطالي ما استقر عليه القضاء الإنكليزي، وقد عرف المبدأ كذلك في الحرب الصينية – اليابانية، ثم تبعه القضاء الأمريكي، وبذلك أصبحت قاعدة قانونية ثابتة. من المعروف في القانون الدولي أن الدول المتحاربة تحترم حياد الدول التي ليست طرفاً في النزاع، فالدولة التي في حالة حرب لا تستطيع ـ قانوناً – التعرض لسفن ترفع علم دولة محايدة، أو تنتقل بين موانئ دولة محايدة.
وفي أثناء الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865)، أعلنت بريطانيا حيادها بين الولايات الأمريكية الشمالية والولايات الجنوبية، إلاّ أن السفن البريطانية (وبريطانيا كانت في الواقع مؤيدة للولايات الجنوبية) كانت تنقل الرجال والبضائع من موانئها، التي هي رسمياً حيادية، إلى موانئ الدول في البحر الكاريبي والتي كانت هي بدورها حيادية في الحرب الأمريكية.
إلا أن الرحلة بمجرد أن تصل إلى البحر الكاريبي وتدفع رسوم الرسو وتبدو وكأنها وصلت إلى جهة الوصول، تستأنف رحلة جديدة من ميناء الوصول إلى موانئ الولايات الجنوبية. ويتضح أن الرحلة تنقسم إلى شقين: الأول يبدأ من ميناء دولة حيادية (بريطانيا) إلى موانئ دولة محايدة (في البحر الكاريبي)، ويبدأ الشق الثاني من ميناء محايد في الكاريبي إلى ميناء طرف محارب (الولايات الجنوبية). إلاّ أن محكمة الغنائم الأمريكية، وعلى سند من السوابق القضائية البريطانية والألمانية وغيرها، قررت في سلسلة من الأحكام أن تعتبر «الرحلة مستمرة» وغير قابلة للتجزئة، حتى إن بدت الرحلة في بداياتها بريئة وبعيدة عن مخالفة القانون الدولي، إلاّ أن الرحلة استمرت وهي محملة بالحمولة نفسها وظلت البحرية الأمريكية تعترض مثل هذه الرحلات، سواء اعترضتها في الشق الأول أو في الشق الثاني منها وتصادر حمولتها. واللافت للنظر أن الحكومة البريطانية لم تعترض على قرارات محكمة الغنائم الأمريكية، لاسيما وأن المبدأ هو من ابتكار القضاء الإنكليزي.
ومن دراسة هذا المبدأ، فإن محاكم الدول جميعها تجاوزت الشكليات والمظاهر إلى فحوى الرحلة وحمولتها وأثر تلك الحملة في المجهود الحربي لدولة في حالة حرب، وقياساً على ذلك يجب النظر إلى تصرفات المستوطنين الإسرائيليين. فالمستوطن يبدو مدنياً، بكل مظاهر الشخص العادي، ولكنه في الواقع عنصر عسكري يقوم بمهام الجيش والقوات المسلحة، وتقدم له الحكومة كل التسهيلات لانتقاله إلى الأرض المحتلة واستعمارها، ويكون جزءاً من مستوطنة هي في الأساس جزء لا يتجزأ من نظام الجيش الإسرائيلي وسيطرته على الأرض المحتلة.
إنه عنوان واضح «للرحلة المستمرة» التي بدأت بريئة كمدني، وانتهت إلى أن يستعمر الأرض ويطرد سكانها بقوة السلاح والإرهاب. إنه هدف مشروع للمقاومة الفلسطينية.