قبل ثماني سنوات، حرق مستوطنون منزلًا في قرية دوما، شمال شرق نابلس، أودت الحادثة بالعائلة، طفل رضيع ووالديه، ليبقى من بعدهم الطفل أحمد دوابشة، من غير الوارد أن يكون لدى الناس اتفاق عامّ على إدراك حقيقة الزمن حين الحديث عن ثماني سنوات، لكنها الحدّ الفاصل لأحمد دوابشة بين سنته الرابعة في حينه، والثانية عشرة الآن، وبهذا الاعتبار، هي شيء كثير لفرد، انتقل من مهاد الطفولة السابق على الوعي المميِّز إلى عتبات المراهقة التي تحظى بالتمييز الكافي.
ربما لم يكن يدرك أحمد وقتها ما الذي حدث بالضبط، لكنه أحسّ على نحو عميق، وبقدر مفتقر للقدرة الكافية على التعبير، أنّه فقد والدته، وأن تغيّرًا مظلمًا وغير مفهوم قد حصل، فالعالم الذي هو بيته وأخوه وأبوه وأمه، فجأة انقلب إلى عالم آخر، لكنه اليوم يدرك تمامًا ما الذي حدث، ومَن حرق بيته، ومَن حطّم عالمه.
قد نملك حقّ المجازفة للقول إنّ طفلًا في الرابعة، لم يكن يعرف بعد معنى تحطيم العالم، ولأنّ الوعي في مثل تلك السن (الرابعة) في طور تشكّله الأوّلي بما يحول دون اختلاطه الكافي بالمشاعر التي لا تملك بدورها قاعدة من الوعي الملائم لتثبيتها، فإنّه لا يمكننا على نحو مناسب أن نفهم بدورنا كيف رأى الطفل عالمه حينها، وهل كان يفهم معنى الحسرة كما ينبغي أن يُفهم؟ الطفل الذي يُحطَّم عالمه الكامل في تلك السنّ يُحرم من حقّه في التحسّر الواعي، الجريمة هنا ممتدة، متجاوزة، لا تحرق الأجساد وسط حريق الجدران والأثاث، ولا تستأصل حياة الأفراد، ولكنّها لفرط بشاعتها، تحرم الناجي من التذكّر الكامل، ومن الإحساس الجدير بحقيقة الحسرة.
من جهة ما، تخاطب الجريمة الوعي، الناجي الوحيد من الجريمة، المستهدف بها بالكامل، كما بقية عائلته، يجد نفسه قد بات قادرًا في هذه السنّ على التمييز، كانت نيران المستوطنين تحاول الوصول إلى وعيه، بالقدر نفسه الذي كانت تحرق فيه عالمه الكامل، وهذه واحدة من مفارقات التاريخ الدالّة، في هذا الصراع الأكثر تعقيدًا ومأساة، فكلّ المقولات الصهيونية التأسيسية للمشروع الصهيوني، انبنت على خلق وعي زائف إزاء حقائق صلبة، وكان الرهان الصهيوني دائمًا، أن الصغار الذين سيُحطّم عالمهم سوف ينسون، لأنّهم لن يكونوا في السنّ القادر بعد على امتلاك وعي مناسب لإدراك حقيقة ما حدث.
يُنسَب لبِن غوريون، أوّل رئيس وزراء لدولة الاحتلال، أنّه قال: "الكبار سيموتون، والصغار سينسون"، لا يعود والحالة هذه، مهمًّا من هو القائل بالفعل، فالمشروع الصهيوني انعكاس كامل، لوعي مرتبك بإمكان حسم الوعي في فلسطين وبحقيقة ما جرى فيها، فإنْ عجِزَ راهن على "كيّ الوعي"، وذلك في حين -ولو اخترع الفلسطيني هذه المقولة ونسبها إلى عدوّه- أنّه كان يؤكّد بدوره، أنّ معركة الوعي محسومة له، وأنّ الأطفال سيتذكرون، لأنّ التذكر فعل الأحياء لا الأموات.
كيف يبني الصغار في فلسطين ذاكرتهم، طالما كان الكبار يموتون، أو يُكوى وعيهم، وإلى جانب ذلك يُشقّ في كل زاوية بالأرض، ويُنفَذ من كل طاقة إلى الإدراك، وتُحَوط كلّ عملية اقتصادية، بما ينبغي أن يكون كافيًا، لا لمنع بناء ذاكرة صحيحة فحسب، بل لهندسة هذه الذاكرة، وهندسة أصحابها معها، وهندسة الواقع والمجتمع والتاريخ وكل شيء، هندسة حملت عناوين كثيرة "الفلسطيني الجديد"، "السلام الاقتصادي"، "بذور السلام"، وكلّها وجه آخر لمقولة "الصغار ينسون"، فكيف يبني صغار فلسطين هذه الذاكرة الصلبة وافرة الصحة والاستقامة؟
يبني الطفل الفلسطيني ذاكرته من تجربته المباشرة، يكتسبها بالمعاينة والمشاهدة والمعايشة ولا يرثها، فبقدر ما تراهن عمليات الهندسة الاستعمارية على تجريف منابر التعبئة، تجد أنّ هذا الفلسطيني الصغير قد امتلك فهمًا كاملًا لحقيقة القضية، أحسن من لو ورثه عن الكبار، فإنّ طول الأمد على الكبار، قد يدفع بعضهم نحو سياسات "تحريفية"، تبحث عن الخلاص، ولكن الصغار وقد امتلكوا الوعي الصحيح والمعرفة الناضجة، لم يتعبوا بعد ليبحثوا عن خلاص، أيّ خلاص؟ قدر الطفل الفلسطيني، أن ينهض في وجه الفكر الخلاصي، أن يفاجئه، أن يلطمه، أن يضع إصبعه على خطوط التحريف التي فيه، وأن يردّ للقضية وجهها الأوّل، وكأنّه ولد مع وجهها الأوّل، مع أنّه جاء بعد زمن، بعد كل عمليات الهندسة، وأفكار التحريف، وسياسات خلق الذاكرة البديلة.
ما يزال أحمد دوابشة صغيرًا، امتلك الوعي الكافي بحقيقة ما حصل، ويجول بنظره الآن بين حريقين، حريق منزله قبل ثماني سنوات، ولم يكن بعد يميّز الذي جرى وحريق بلدة حوارة جنوبيّ نابلس.
أحرق المستوطنون عشرات المنازل والمتاجر والسيارات في حوارة، في اليوم التالي، يردّ فلسطينيون في مدن متعدّدة على جريمة المستوطنين، واحدة من الردود جاءت أيضًا من أريحا، تلك المدينة التي تثبت أنه لا استثناء في البناء الذاتي للذاكرة الفلسطينية.
لكن أحمد ولم يزل في الثانية عشرة من عمره، في مثل عمره قبل ثماني سنوات، كان مراهقون يسمعون عن حرق منزله وعائلته، هؤلاء المراهقون صاروا في العشرينيات الآن، مرّة أخرى يبدو الزمن مخاتلًا وهازئًا، حينما نتذكر أن السنوات الثماني، كانت مدة كبيرة بالنسبة لهؤلاء الذين انتقلوا من عتبات مراهقتهم حينها ليحملوا اليوم عبء النضال الفلسطيني، في واحدة من أكثر محطّاته تعقيدًا وصعوبة.
ليس ثمَّ حاجة إذن لذلك السؤال المبتذل إن كان التاريخ يعيد نفسه، فالطفل الفلسطيني يكتسب وعيه الصحيح الكامل من تجربته المباشر، ولا يعني ذلك في المقابل انفصال محطّات الفلسطينيين عن بعضها، بل يعني ذلك أنّ التاريخ الفلسطيني قطعة واحدة، داخل هذه القطعة أجزاء تتكامل وتبني على بعضها وإن كانت لا تتشابه. ولكن إمّا أنّ الناس في زمن "السوشال ميديا" والتحديث المستمرّ لهذه المواقع التي تتلاعب بالوعي باستمرار، يتوقّعون ردًّا سريعًا ومباشرًا من الجماهير دون إدراك خصوصيات هذا الجزء من التاريخ الفلسطيني، وإمّا أنّهم يتشبّثون بالرغبة في استنساخ أجزاء سابقة لا يمكن استعادتها لتطابق جزءًا مختلفاً في سماته وشروطه الموضوعية، ولكن التاريخ واحد، من حيث هو أصالة القضية وحقيقة الصراع وصلابة الذاكرة وتجدّد إرادة النضال، أمّا متى يكون النضال، وما هي سماته الجديدة، فهذا أمر آخر.
لأنّ التاريخ واحد، ولأنّ الوعي ينبني بمباشرة محطاته، ولأنّه كان من محطاته، حروب غزة، وحرق عائلة دوابشة، و"هبّة القدس" التي جاءت بعد وقت قصير على حرق عائلة دوابشة، فإنّ محطّة الشبان المناضلين الآن، وإن اختلفت في سماتها، واختلف شبانها في طباعهم، هي بناء على تلك المحطات، وتعبير عن بناء الذاكرة الذي ينمو في طول تلك المحطات.