رغم غياب أيِّ أفق سياسي، وتحديدًا، بعد تشكُّل الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرُّفًا ويمينيَّة، لا تزال السلطة الفلسطينية تجد نقاط تقاطُع والتقاء تسمح بعقد قمة أمنية في مدينة العقبة الأردنية، بقيادة الولايات المتحدة ومشاركة (إسرائيل) والسلطة الفلسطينية ومصر والأردن؛ بادعاء منْع تدهور الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، قبل شهر رمضان.
ورغم استمرار حديث السلطة عن قضايا سياسية تُعنى بها لقاءاتها مع قادة الاحتلال، إلا أن شكوكًا كبيرة تلفّها؛ تؤكّدها تصريحاتُ الاحتلال الرسمية، ومواقفه المُجْهِزة، وبتصرُّفات أحادية، على أيِّ آمال، نحو الانعتاق الفلسطيني الرسمي من هذه الوضعية المرشَّحة لقطع ما تبقّى من خيوط بين السلطة والشعب.
هذا الانسداد السياسي في أفق السلطة الفلسطينية نحو استكمال نفسها، بمدّ سيادتها (!) على مناطق الضفة الغربية المحتلة، ولا سيما مناطق ج، البالغة حوالي 60% من مساحة الضفة، ونحو استقلالها، والإفادة من مواردها، فضلًا عن حلِّ المسائل النهائية المؤجَّلة، ومِن أهمِّها القدس والاستيطان، علاوة على حقِّ عودة اللاجئين الفلسطينيين، هذا الانسداد السياسي والوطني وحده كافٍ لهزّ أركان السلطة، والتشكيك في جدواها، فما بالك، إذا كانت تضاف إليه مطالبة السلطة وقواتها بالتعاون مع دولة الاحتلال، في القضاء على المقاومين في الضفة الغربية، وتحديدًا في شماليّها، في جنين ونابلس؟!
ذلك، وفق ما نقلت وسائل إعلام إسرائيلية، أن "لقاء العقبة سوف يتضمَّن المطالبة بضمانات وتطمينات، بتنفيذ الجزء المتعلق به من التفاهمات، بين الطرفين، التي تشمل تنفيذ السلطة الفلسطينية "خطة أمنية" وضعها المنسِّق الأمني الأميركي الحالي في القدس، الجنرال مايكل فينزل، وتهدف إلى إعادة سيطرة السلطة على شمال الضفة، وملاحقة المجموعات الفلسطينية المسلحة".
والتوقيت هنا بالغ الأهمية، إذ يأتي بُعَيد مجزرة ارتكبتها قوات الاحتلال في نابلس، راح ضحيَّتها 11 شهيدًا، وقرابة المائة من الجرحى. وأحدثت صدمةً في الشارع الفلسطيني، أعقبتها حالةُ غضب تمثَّلت في مسيرات حاشدة في مدن الضفة الغربية، وفي القدس، وفي قطاع غزة، مستنكرة جريمة الاحتلال، ومتضامنة مع الجماعة المقاوِمة في نابلس، عرين الأسود، استجابةً لنداء منها؛ الأمر الذي يدلّ على شعبية هذه المجموعة، وعلى التفافٍ جماهيريٍّ لافتٍ حول نهجها، وخصوصًا في جيل الشباب الفلسطيني الذي تستفزُّه اعتداءاتُ قوات الاحتلال، من اعتقالاتٍ يومية، واقتحامات مستمرّة لمدن الضفة وللمسجد الأقصى، واستهدافها الممنهج المقدسيِّين، بهدم بيوتهم، وطردهم من القدس، ونزع هُويَّاتهم المقدسية، بالتوازي مع اعتداءات عصابات المستوطنين، وقد أُطلِق لها العِنان، وسمح لأفرادها، والمنضوين تحت منظّماتها، بمزيد من التسليح. هذا التوقيت المحرج للسلطة يُفْهِم أن الهامش الممنوح لها ضيِّق جدًّا.
ولا تتوقَّف التطورات الأكثر سلبيةً على القشرة السطحية، بل تتعدَّاها إلى بنية دولة الاحتلال العميقة، بسطوة أكبر للمتطرِّفين اليمينيين، متحللين من السلطة القضائية، لصالح أجندات تمتزج فيها الاعتبارات الشخصية والحزبية مع الاعتبارات القومية الاستيطانية التهويدية. يجسِّد ذلك منْحُ وزير الأمن القومي، العنصري، إيتمار بن غفير، صلاحياتٍ أمنية، مهمَّة، تسمح له بتنفيذ أهدافه، وبمنْح صِنْوه وزير المالية، بتسلئيل سموطريتش، صلاحيات ما تسمى "الإدارة المدنية"؛ الأمر حمل رجال قانون كبارًا في جيش الاحتلال والمخابرات إلى تحذير رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو؛ من أنّ "نقْل صلاحيات الإدارة المدنية، وتنسيق العمليات الحكومية في المناطق المحتلة، إلى سموتريتش، الذي يشغل منصب وزير المالية، إلى جانب كونه وزيرًا في وزارة الجيش، هي إجراءات غير قانونية؛ لأن ترجمتها الفعلية هي ضمُّ المنطقة ج في الضفة الغربية إلى (إسرائيل)"... وعلى الرغم من إبداء إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن رفضًا قويًّا لأيِّ إجراء من إجراءات الضمّ، إلا أننا لا نرى امتثالًا احتلاليًّا، يُذكَر، أو يُلمَس.
وعليه، تعدّ هذه القمة التي عُقدت الأحد في العقبة وبرعاية أميركية مباشرة، وبمشاركة عربية من دولتين هما الأكثر انخراطًا في الشأن الفلسطيني، نقطة مفصلية، ولها ما بعدها، فإن امتثلت السلطة الفلسطينية إلى الأولويات الأميركية والإسرائيلية، نحو الاضطلاع بدور أمني أكبر، يسهم في القضاء على المقاومين الفلسطينيين، فإنها تكون قد تماشت مع تعطيل المسار السياسي، والقبول الواقعي بالنسخة الجديدة من دولة الاحتلال، الأكثر دموية، والأكثر عنصرية، والمتسارعة الخطى نحو إسدال الستار على الطموحات الفلسطينية الوطنية والسياسية، بالتعايُش مع هذا النهج الاحتلالي الذي لم يعد فيه المتطرِّفون مجرَّد ديكور، بل أصبحوا يشرفون مباشرة على أهم الأدوات الاحتلالية التي لا تترك فرصةً لتأجيج الصراع إلا واستخدمتها، من أجل التساوق مع قواعدهم المتطرّفة، ومن أجل تعزيز البيئة الصراعية الوجودية، ومن شأنها إضعاف المنافسين، من دعاة "الديمقراطية"، الداخلية، في دولة الاحتلال، الواقفين في وجه تهشيم السلطة القضائية، ومؤسّسات المجتمع المدني.
والسؤال غير الجديد: هل تنجح السلطة الفلسطينية وعناصرها الذين لن يكونوا، مهما أُعِدُّوا غيرَ فلسطينيين، في هضْم هذا الطُّعْم العسير؟ بأنْ يتوهَّموا أنَّ إظهارهم مزيدًا من النجاحات! في تهدئة الضفة الغربية، (ولَعِب دور أكثر حزمًا تُجاه هذا الجيل الفلسطيني الجديد، وهو جيلٌ عابر للفصائلية)، أنَّ ذلك سيقرِّبهم من تحقيق إنجازات سياسية مع مِثْل هذا الشريك الاحتلالي الأكثر خروجًا عن السياسة؟
أو، وهذا الأخطر، أنْ يكون قادةٌ من السلطة الفلسطينية قنعوا بهذه الحالة الفلسطينية الاحتلالية المختلّة؛ أنْ يصبح الشأن الفلسطيني شأنًا داخليًّا لدولة الاحتلال، لا تُرفَع فيه المنازعات إلى مجلس الأمن، (كما حصل أخيرًا حين تراجعت السلطة الفلسطينية عن مشروع قرار إدانة الاستيطان في مجلس الأمن)، ولا يُسمَح فيه لمَن يظهر ردَّات فعْلٍ من الفلسطينيين بشيءٍ من الردّ على جرائم الاحتلال. أما الدور الأميركي، فمِن الصعب التعويل عليه، فلا يسعفنا التاريخ، ولا الراهن، إذ تنصبُّ المساعي الأميركية، حاليًّا، على منع تفجُّر الأوضاع؛ لاعتبارات ومصالح أميركية عالمية أوسع. وهنا الخشية أنْ لا يكون أمن الاحتلال أولًا، فقط، ولكن أولًا وأخيرًا.