في الوقت الذي تواجه فيه دولة الاحتلال ضغوطًا لا تخطئها العين من إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للعودة إلى العملية السياسية مع الفلسطينيين، ولو من الناحية الشكلية غير المجدية، فإن الواقع الإقليمي، من وجهة النظر الإسرائيلية، يذهب باتجاه أجندة مختلفة عما تريدها واشنطن، ولا سيما تفعيل اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية على حساب التوجه السياسي مع الفلسطينيين، وكلاهما مساران خاطئان ومضرّان.
صحيح أن هناك توافقًا بين واشنطن و(تل أبيب) على ضرورة المضيّ قدمًا في المسار التطبيعي، لكن التباين بينهما يتراوح حول أي المسارين أولى بالمباشرة به، ولا سيما مع قناعة إسرائيلية مفادها أن هرولة الدول العربية نحو التطبيع، على الرغم من تعثر المسار السياسي مع الفلسطينيين، إنما تعود في حقيقتها إلى رغبتها بالاستفادة من مصالحها مع الاحتلال، ولم ينبع من قناعتها بأنها تتطلع للتعايش السلمي معها، وليس بسبب استعدادها للتخلي عن عدد من المفاهيم الخاصة بالقضية الفلسطينية، ولكن بسبب تقييمها بأن قدراته الأمنية والتكنولوجية والدبلوماسية ضرورية لمواجهة من يوصفون بالأعداء المشتركين، وهم إيران والحركات الإسلامية، وفق المزاعم الإسرائيلية.
في الوقت ذاته، فمن الواضح أن التقديرات الأمريكية والإسرائيلية وبعض الدول العربية الحليفة تكاد تجمع على أن الشرق الأوسط يشبه البركان الذي قد ينفجر بشكل غير متوقع، مع واقع دولي مضطرب داخليًّا وخارجيًّا، مع استمرار ترددات الهزة الأرضية التي أصابت المنطقة كلها في نهاية 2010، مع اندلاع ما سمي آنذاك بالربيع العربي، الذي شهد جملة تحولات عديدة من بينها قلق من الدول المطبعة والاحتلال معاً، ما يعتبرونه التآكل المتصاعد في قوة الردع الخاصة بالولايات المتحدة، وتعدّ عنصرًا أساسيًّا في أمنها القومي، ونتيجة لهذا التراجع فقد شعرت هذه القوى بحالة من تراخي قوتها، وضعف مفاعليها الأمنية.
ما لا يدركه المطبّعون، أو يدركونه، أن هذا التطبيع الذي يتواصل مع حالة من العزلة يعانيها الاحتلال على الصعيد الدولي، يساهم بتعزيز مكانته، ويرفع مستوى علاقاته الأمنية، وينعش بناه التحتية الاقتصادية، التي تواجه خطر عدم الاستقرار بسبب التغيرات القانونية الجارية لديه، مع تهديد الكفاءات التكنولوجية بالهجرة العكسية، ومغادرة رؤوس الأموال له.
لا يمكن اعتبار كل هذه التطورات مبررًا أمام هذه الأنظمة العربية المطبّعة، لكنها -ويا للغرابة- باتت ترى في الاحتلال "وكيل التأمين على حياتها الأكثر فاعلية، وربما الوحيد، في المنطقة"، وتقدر أن هذا الاحتلال، الذي يحتل الأرض، ويدنّس المقدسات، ويقتل أشقاءهم الفلسطينيين، يشكل قوة لا تقل عن الولايات المتحدة يمكن الاعتماد عليها، ولا سيما في مجالات الاستخبارات والتدريب والعقيدة القتالية، بل تعتبره شريكًا موثوقًا به في الأوقات الصعبة، ويا للأسف!