فلسطين أون لاين

تقرير ضياء الأغا.. 30 سنة في الأسر تُفقد والدته "طعم الحياة"

...
الأسير ضياء الأغا
خان يونس/ هدى الدلو:

في 15 نوفمبر الماضي زفّت أم ضياء الأغا بُشرى تعافيها إلى فلذة كبدها في سجن نفحة الصحراوي، بعد إجرائها عملية غضروف في الظهر أقعدتها الكرسي المتحرك لفترة.

"كادت الفرحة أن تقفز من عينيه، وشعرتُ بقلبه يرفرف بعد عودتي إليه واقفة على قدميّ، خاصة أنني في الزيارة التي سبقتها عدتُّ إلى غزة على كرسي متحرك، وتمنّى كلانا أن يعانق الآخر بعد أعوام من العذاب والألم والفرقة"، كلمات تسردها "أم ضياء".

لم يكن ضياء يستسلم لمحاولات والدته المتحاملة على نفسها محاولة إقناعه بأنها بخير، شعوره بمعاناتها أكده حديثه لشقيقاته سرًّا اللواتي بُحن له بمضاعفات مرض السكري وآلام غضروفية في الظهر.

ضياء، عميد أسرى غزة (50 عامًا) من مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، تُغيّبه زنازين الاحتلال منذ 10 أكتوبر 1992. ذاق من معاناتها أشكالًا مختلفة من القهر والعذاب، وهو الأسير المعتقل قبل توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير والاحتلال الإسرائيلي.

مرت 30 سنة على اعتقال ضياء، دون أن يغيب عن والدته نجاة الأغا (72 عامًا) أي ذكريات تربطها بابنها البكر منذ ولادته وحتى يوم اعتقاله.

لا تجد الحاجة سوى كلمة "وجع" لتصف ما يعتل قلبها إزاء قضاء ضياء سنوات طفولته وشبابه في سجون الاحتلال، بعد الحكم عليه بالسجن المؤبد مدى الحياة، بتهمة تنفيذ عملية أسفرت عن مقتل ضابط إسرائيلي.

تضيف: "ضياء بحب المزح، طيب المعشر، لين في التعامل. في رمضان كان أول واحد يصحى معي على السحور يقف يساعدني في تجهيزه، كان ينتظر قدوم شهر رمضان ليعيش أجواءه ويطلب مني إعداد الأكلات المفضلة لديه، وكعك العيد، ويفرح عند شراء ملابس جديدة للعيد".

تمتنع أم ضياء منذ اعتقال ابنها عن تذوق أيٍّ من الوجبات التي كان يطلبها ويحبها، ولا يزال قلبها ينبض شوقًا للحظة الإفراج عنه لتصنع له أكلاته المفضلة كالمقلوبة والسماقية والقطايف، "وإذا اضطررتُ إلى إعداد شيء منها أقضي بقية ساعات اليوم أبكيه"، تواصل حديثها.

حفرت لهفة الانتظار تجاعيد على وجه والدة ضياء التي تنتظره يومًا تلو الآخر، "فمنذ ثلاثين عامًا لم أشعر ببهجة أيّ مناسبة، لا أجد للحياة طعمًا دون ضياء".

تعذيب وعقوبات

في أثناء مدة اعتقاله خضع ضياء لتحقيق قاسٍ ذاق خلالها فصولًا مختلفة من التعذيب والعزل في الزنازين، بما في ذلك حرمانه الزيارة. ولم يُسمح لوالدته بزيارته إلا على فترات متباعدة بعد 4 سنوات من الحرمان دون أيّ مبرر.

تقول نجاة: "يحاول الاحتلال بشتى الوسائل الضغط على ضياء، ومنعني من الزيارة قبل وفاة والده، والآن الوحيدة المسموح لي بالزيارة بين أفراد الأسرة، ولكن ذلك يتحكم فيه المزاج الإسرائيلي".

تصف زيارة السجون بأنها قطعة من العذاب، حيث تقضي ساعات طويلة من يومها على الحواجز الإسرائيلية والتفتيش، عدا عن التشويش في السماعات التي يتم التواصل عبرها، لينتهي الأمر بزيارة لا تتجاوز 45 دقيقة، لا تطفئ لهيب الشوق.

تقول شقيقته علا التي تصغره بعام، إنّ وفاة والدها عام 2005 كانت من أصعب الظروف التي مرت بضياء، حيث حرم من إلقاء نظرة الوداع عليه، "وباتت أمنية أمي الوحيدة أن تحظى برؤيته حرًّا خارج الأسر وتحتضنه بين ذراعيها".

تستحضر علا أحد المواقف الطريفة عندما كان يعمل والدهما في الزراعة فطلب منهما أن يتتبّعا آثار قدمه لغرس بذرة الفول، وبعدما انتهى والدهما واستلقى على فرشة في الأرض، رفع ضياء قدمي والده ووضع أسفلهما بذرة.

تشير علا إلى أنّ صلابة ضياء "هي ما يخفف عن أُمّنا عناء تلك السنوات الطويلة في الأسر، فهو يتمتع بإرادة قوية، يُعد جنرالًا في الصبر رغم ظروف السجن، عند اعتقاله كان في السنة الثانوية الأولى، اليوم قد أنهى دراسته الجامعية في تخصص التاريخ، ويلتحق بدورات تعليمية وثقافية".

وتصف علا زيارتها الأولى لضياء بـ"اللقاء الصعب. رأيته لأول مرة من خلف الشباك والزجاج بعد سنوات طويلة وقد اشتعل رأسه شيبًا".

وبعد منع الاحتلال أشقائه من الزيارة واقتصارها على الوالدين، لم يفتأ ضياء يسأل عنهم، فيباغتهم كل فترة والأخرى باتصال ليطمئنّ عليهم وأبنائهم وصحة والدتهم.

تقول علا: "تربطني بضياء علاقة قوية، فضياء الأخ الحنون والسند، يساعد القريب والغريب، رغم بعده عنا إلا أنّ له أثرًا في حياتنا".

تبتسم أم ضياء عندما يقول لها الأسرى المحررون عن ابنها بأنه كان أبًا لهم، ويقولون لها "أبو الأسرى كلهم"، وعندما يقترب موعد إفراجٍ عن أسير يهديه ضياء من ملابسه الجديدة ليستقبل بها عائلته.