من جديد تظهر دولة الاحتلال عاجزة أمام تمدد هجمات المقاومة، وتستعيض عن هذا العجز بإصدار تهديداتها بالاستعداد لعملية عسكرية واسعة، كشفت السنوات الأخيرة أنها لن تكون أحسن حالًا من سابقاتها من عمليات دموية نفذها الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي كل مرة كانت المقاومة تعود من جديد، تصلب طولها، وتستعيد عافيتها، وتضرب مجددًا.
مع العلم أن التهديدات الإسرائيلية الجديدة تأتي مع ما يواجهه الاحتلال من هجمات مركزة، منظمة أو فردية، لكنها تسببت بظهور ردود فعل واسعة النطاق كشفت بما لا يدع مجالًا للشك أن "الدم يغلي في العروق"، وأن الهجوم الفدائي الآخر ليس سوى مسألة وقت فقط، ولم يجد الاحتلال من "تنفيسة" لغضبه من مواصلة المقاومة سوى التوعّد بتنفيذ عملية سور واقٍ جديدة في شرقي القدس، وشرعنة تسع بؤر استيطانية في الضفة الغربية، وسلسلة من العقوبات الأخرى.
في الوقت ذاته، فإن مثل هذه العقوبات التعسفية تطرح أسئلة سبق أن طرحها الإسرائيليون على أنفسهم، ولم يعثروا لها على إجابة، وعلى رأسها: هل هذا هو الرد المناسب على موجة الهجمات الإرهاب الحالية، وهم في الوقت ذاته يغضون طرفهم عن حقيقة مفادها أن ذاكرتهم تضللهم، بدليل أن أكثر من سبعة عقود من الاحتلال والعقوبات لم تسفر سوى عن تصاعد المقاومة، والدليل أن المقاومة والاحتلال سارتا معاً في خطين متوازيين، فلا أوقف عدوانه، ولا أعلنت الاستسلام!
لقد واجه الاحتلال جملة من الحروب والعمليات وموجات المقاومة حتى قبل قيامها، وبالتأكيد بعد ذلك، وطوال هذه العقود الطويلة افتقد الاحتلال، على الرغم من امتلاكه مراكز تفكير ومعاهد بحث عريقة، رؤية طويلة الأمد وواسعة الأفق، بعيدًا عن ردود الفعل الانفعالية الآنية، ولذلك طالما أنه لم يفهم الاحتلال عمق المشكلة، وأسسها، وجذورها، فلم يتمكن من تطوير حلّ مناسب، والمقصود هنا وقف المقاومة، مع أن التجربة أثبتت أنه لا يوجد حل صفري كامل لهجماتها، على الرغم من مواصلة الاحتلال سياسته المعلنة بـ"جزّ العشب"، الذي سينمو مرارًا وتكرارًا في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
صحيح أن الحركة الصهيونية في بداياتها استندت إلى المفهوم الأمني المسمى "الجدار الحديدي" لصاحبها زئيف غابوتنسكي، فقد جاء بعده ديفيد بن غوريون ليتوسع في مفهوم الأمن الإسرائيلي التقليدي، عبر اعتماد الاحتلال فكرة "التناوب" في العمليات العسكرية والحروب القتالية، وفكرة "الموجات" في السياقات العملياتية من نموذج حروب العصابات، أو ما تسمى اليوم بإستراتيجية "المعركة بين الحروب"، وتسعى جاهدة إلى تمديد فترات الهدوء النسبي قدر الإمكان.