شهدنا في المرحلة القليلة الفائتة، وخصوصًا بعد ظهور نتائج الانتخابات الإسرائيلية العامة التي جرت يوم 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، إعلان بعض كتّاب الأعمدة الصحافية اليهود اعتزال الكتابة، على خلفيات عديدة أبرزها يأسهم من الإيمان بأن الكلمة يمكنها أن تُحدث أي تغيير في الواقع الإسرائيلي الآخذ بالتغوّل والتوحش.
وبرز منهم الكاتب الروائي يتسحاق بن نير الذي دأب على مدار العقد الفائت على كتابة مقال أسبوعي في صحيفة معاريف.
وسبق لابن نير أن نشر في 1986، رواية من جانر الديستوبيا بعنوان "ملائكة قادمون"، توقع فيها أن تخضع (إسرائيل) في قادم الأيام، إلى سيطرة اليهود الحريديم المتشدّدين دينيًا، وأن يتخذ هؤلاء إجراءات مناهضة لكل مظاهر الحداثة والتطوّر التقني، وأن يُخضعوا كل مجالات الحياة إلى نمط تفكيرهم الدينيّ الأصولي.
واستذكر بن نير، في سياق مقاله الوداعي لقرّائه الذي نشره أخيرًا، من ضمن أمور أخرى، أن نتائج الانتخابات العامة التي جرت في (إسرائيل) عام 1977 وأسفرت عن سقوط حزب المعراخ، وهو سليل حزب مباي المؤسّس لـ(إسرائيل)، الذي حمل لاحقًا اسم حزب العمل، وما يزال يحمله، وصعود حزب الليكود إلى سدّة الحكم، انطوت على أول مؤشّرات ما يصفه بأنه "تغيير جماهير المجتمع في (إسرائيل)" بعد نحو ثلاثة عقود على إقامتها، وأعاد إلى الأذهان مقولة أحد قادة الحزب المؤسّس، وفيها: "إذا كان المجتمع صوّت في الانتخابات على هذا النحو، فينبغي لنا أن نستبدل المجتمع".
ويؤكّد بن نير أنه منذ ذلك العام، قبل أكثر من 45 عامًا، انضافت على تغيّر جماهير المجتمع تغيّرات أخرى، أوصلت (إسرائيل) إلى صيرورتها الحالية التي يصفها بأنها قومية متطرفة أقرب إلى الفاشية.
بطبيعة الحال، يتوقف بن نير، لكونه كاتبًا علمانيًا وليبراليًا، عند احتلال 1967، فيقرأ كيفية تأثيره في تلك التغيّرات، إنما دون أن يعود إلى ما سبقه من تمهيد له يرتبط بالحركة الصهيونية ومشروعها الأساسي، ولن يستصعب قارئه استشعار مبلغ حنقه على ما يمكن نعته بـ "سرقة" هذا المشروع، ولا سيما من قوى لم تقف، قبل احتلال 1967 وقبل انتخابات 1977، في صلبه، بل بقيت على هامشه، سواء بقرار مسبقٍ منها أو بالرغم عنها.
عند هذا الحدّ، ربما يتعيّن القول إن اعترافات بن نير هذه في ما يمكن عدّها وثيقة اعتزال الكتابة الصحافية تمثل دالًا بليغًا على تناقضات الصهيونية، التي فيها ما يفسّر أيضًا الصراع الداخلي الدائر حاليًا في (إسرائيل) منذ انتهاء الانتخابات، وصار إلى تفاقم مع تأليف حكومة نتنياهو السادسة في أواخر العام المنصرم، ولا شك في أنه صراع مُركّب وتتداخل فيه تصدعات إثنية وطبقية واجتماعية وأيديولوجية، وليس مبالغة القول إنه قد يكون مُرشّحًا للتصعيد، وحتى في حالة هدوئه، ستظلّ دوافعه راسية في عمق المجتمع الإسرائيلي.
ولا بُدّ من الإشارة هنا إلى أن المفكر العربي عزمي بشارة توقف منذ عقود عند مجموعة من التناقضات الداخلية التي تعصف بـ(إسرائيل) والحركة الصهيونية وتوقّع صيرورتها الحاليّة ذات النزعة اليمينية الدينية الاستيطانية، والتي يعود سببها الرئيس إلى تحوّل الحركة الصهيونية إلى أسيرة مشروع ديني، ينفي عنها صفتها التنويرية والعلمانية التي حملتها في خطابها، وذلك في ضوء استقرائه لما تشتمل عليه التغيّرات الديموغرافية والاجتماعية من تحوّلاتٍ بلغت المرحلة الحالية التي تتسم أكثر شيء بانتقال السلطة الإسرائيلية إلى فئات لم تكن جزءًا من النخبة المؤسسة، بل أكثر من ذلك كان بعضها إما مناهضًا للصهيونية كما هي حال اليهود الحريديم، أو عمل بعضها الآخر على هامشها على غرار الصهيونية الدينية، أو هاجر بعضها الثالث إلى (إسرائيل) بعد إقامتها من جانب تلك النخبة الصهيونية، مثل اليهود العرب أو الشرقيين الذين باتوا يمثلون الغالبية العظمى من قاعدة حزب الليكود الحاكم.