يعد كتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" من أكثر الكتب التي أثارت جدلا في القرن العشرين، وحورب مؤلفه الفرنسي روجيه غارودي بشكل علني وفاضح، لأنه تجرأ على إحدى المحرمات التي رسّختها الصهيونية العالمية دون أن تسمح لأحد بمناقشتها أو فتح ملفاتها، ولا يتعلق الأمر بالهولوكوست فقط، بل تعداه إلى الأكاذيب الإسرائيلية التي سبقت قيام دولة إسرائيل بمئات السنين، مثل مقولة شعب بلا أرض لأرض بلا شعب، وغيرها من المقولات التوراتية التي تثبت الأبحاث يوما بعد يوم أنها "خرافات" لا أصل لها إلا في رؤوس كتّابها.
وقد قام غارودي بتوثيق كل جملة من الجمل التي استند إليها باليوم والتاريخ والمكان والشخصيات، إلا أنني تجاوزت إيراد المصادر التي اعتمدها غارودي، والتي يمكن الرجوع إليها بسهولة من خلال كتابه.
يبدأ غارودي كتابه بالحديث عن أساطير التوراة، وعن التعاليم التي وردت فيها، على الأخص في سفر "يوشع"، والتي قضى فيها على سكان عدد من المدن الفلسطينية وأبادهم عن آخرهم بأمر من الرب "رب الجنود"، ويوضح غارودي أن هذا السلوك ظل مستمرا في الأدبيات اليهودية، إلى أن تبنته الصهيونية كنهج سياسي وعسكري ما زال قائما إلى اليوم.
يتطرق بعدها إلى مسألة الهولوكوست، والمبالغة في عدد الضحايا، لكن، لماذا تمت المبالغة في أعداد الضحايا؟ ولماذا تم التعتيم على الجريمة الحقيقية التي قام بها هتلر ضد الإنسانية جمعاء، لتتحول إلى جريمة ضد اليهود وحدهم؟
ويتطرق غارودي إلى الدعم الذي تتلقاه إسرائيل مادياً ومعنوياً وسياسياً وعسكرياً من الولايات المتحدة الأمريكية، ما يغطي على عنصريتها وجرائمها التي ترتكبها.
يأتي باب كامل في كتاب غارودي ليتحدث عن المذبحة التي ارتكبتها النازية، ويحاول تفنيد الرقم الذي ادعته الصهيونية، ليس من خلال تبرير الأعمال النازية، ولكن من خلال استجلاء الحقيقة، فمقتل فرد واحد ظلماً هو انتهاك للإنسانية كلها، لكن هذا لا يعني المبالغة أيضاً في عدد القتلى، وتجاهل القتلى من أعراق أخرى، بل تجاهل اليهود أنفسهم، أولئك الذين انخرطوا في حركات مقاومة ضد النازية سواء في فرنسا أو روسيا أو أي من البلاد التي خضعت للسيطرة الألمانية.
وينتقل غارودي للحديث عن المحاكمات التي جرت بعد الحرب، فكل تلك المحاكمات، قامت بمحاكمة النازيين فقط، وبناء على شهادات في معظمها عاطفية، دون التحقق من محتوى الشهادات عملياً.
أما فيما يخص عدد اليهود الذين قضوا في الحرب، سواء من قتلوا من قبل الألمان، أو ماتوا على جبهات الحرب، أو من مرض التيفوس المنتشر في المعسكرات، أو من الموت الطبيعي، فإن وثيقة مهمة واحدة يمكن أن تطعن في العدد الذي يدعيه الصهاينة.
يتطرق غارودي في فصل ما قبل الخاتمة إلى أكذوبة شعب بلا أرض لأرض بلا شعب، "في عام 1882 كان تعداد سكان فلسطين 500 ألف نسمة، منهم 25 ألف يهودي فقط". وهؤلاء هم يهود فلسطين، أي اليهود الذين ولدوا في فلسطين، وعاشوا فيها كأي فرد من أفرادها قبل أن تنشأ الفكرة الصهيونية التي قامت باستغلالهم، لكن التاريخ لا يسير دائماً وفق هوى أحد، فيتحقق المثل القائل "شهد شاهد من أهلها"، في عام 1892، كتب آحاد هاعام "أحد العامة" وهو اسم الشهرة للكاتب آشر جينزبرغ، أحد رواد الصهيونية الأوائل، عن انطباعاته بعد زيارته إلى فلسطين قائلاً: "اعتدنا في الخارج أن ننظر إلى أرتس يسرائيل باعتبارها أرضاً شبه مقفرة، مجرد صحراء لا نبت فيها، وبالتالي فبوسع كل من يرغب في امتلاك أرض أن يأتي هنا ليجد ضالته، ولكن الحقيقة غير ذلك تماماً، فعلى امتداد البلاد لا تكاد توجد أرض مقفرة، والأماكن الوحيدة غير المزروعة هي عبارة عن مناطق رملية وجبلية لا تنبت فيها سوى أشجار الفاكهة، بل ولا يتأتى ذلك إلا بعد جهد جهيد وعمل شاق من أجل استصلاح تلك الأرض وفلاحتها". وإذا كانت هذه شهادة أحد رواد الصهيونية الأوائل، فإن الحركة الصهيونية لم تستطع نفيها، لكنها قامت بتجاهلها من تاريخ الكتابات الخاص بالصهاينة الرواد، لأنها تسير عكس المنهج الذي وضعته الحركة للسيطرة على فلسطين، وبالتالي فهي تضرب فكرتهم في صميمها.
في خاتمة الكتاب يلخص غارودي فكرته عن الدعاية الصهيونية، بأنها "هي التي تشوه مغزى الجريمة النازية في حق الإنسانية بأسرها، تحولها من جريمة ضد البشر أجمعين، إلى مذبحة لم يذهب ضحيتها سوى اليهود وحدهم". وهذا يجعل من تجاهل بقية الضحايا في العالم بمثابة جريمة أخرى تضاف إلى الجرائم التي ارتكبت في حق البشرية، "لا يزال البعض مصراً على التسليم بصحة "الشهادات" التي تحدثت عن وجود "غرف غاز" في معسكرات الاعتقال في شرقي أوروبا، بالرغم من أنه ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه الغرف لم توجد مطلقاً في الأراضي الألمانية، وهو الأمر الذي يكذب أقوال "شهود العيان" العديدين الذين أكدوا من قبل وجودها هناك".
الكتاب قيم وجدير بالقراءة والاهتمام، وما زلت أحتفظ بالنسخة التي أهداني إياها أستاذي الدكتور عصام سيسالم رحمه الله يوم كنت طالبا في قسم التاريخ بالجامعة الإسلامية عام 1998م كجائزة لكون درجتي مرتفعة فى مساقه الذي كان يدرسني إياه، وكان الكتاب آنذاك قد انتشر وذاع صيته خاصة بعد محاكمة مؤلفه، رحم الله جارودي وأستاذي الدكتور عصام سيسالم.