أسرت القلوب بنظراتها التي واجهت بها العالم من تحت الأنقاض، وبشحنة الأمل التي ارتسمت على صفحة وجهها البريء لحظة انتشالها. خرجت الطفلة السورية إلى الحياة من جديد محتفظة بشعر منسّق بعناية كما كان تقريبًا قبل أن تتزلزل الأرض من تحت أقدامها وتهوي بالسقوف على الرؤوس.
حاز هذا المشهد قدرة هائلة على ملامسة الوجدان الجماهيري، وسرعان ما اختصّته شاشات المتابعة الإخبارية بامتياز الحضور في الفواصل المتكررة.
تتدفّق وفرة هائلة من الصور والمقاطع من بؤر النكبات دون أن تستوقف الجمهور الذي يتجاوزها بلا اكتراث تقريبًا، بينما تشدّه صورة مخصوصة أو مقطع فريد أو يبقى بانتظار هذه المادة المصوّرة كي تأتي لتحظى بامتياز التعبير عن المأساة التي تتعاظم مؤشراتها في التغطيات الإعلامية والمتابعات الشبكية.
يعتاد الجمهور الفرجة على ما يجري في مشاهد الفواجع، ويتفاعل وجدانيًا معها بشكل انتقائي. يلحظ الناس المشاهد البشعة أو الصادمة من بعيد، فيمتنعون عادة عن الانغماس فيها، كي لا تمسّهم زلزلة معنوية بأثرها.
يُحجَب التماثل المعنوي مع بعض الضحايا لطمأنة النفس من قلقها الوجودي باحتمال أن تلقى المصير ذاته. لكنّ بعض المشاهد الاستثنائية تحوز قدرة على تحريك الجمهور بصفة جارفة، وكان عليها ابتداء أن تخترق جدارًا نفسيًّا عاليًا كي تتسلّل إلى وجدان الأفراد وتغمسه في عالمها.
تمثِّل مظاهر الحياة خطًا فاصلًا بين الإحساس بالضحايا وحَجْب الشعور بهم. فما يحرِّك وجدان الجمهور هي الحياة النابضة أساسًا لا الأشلاء والدماء والأنقاض.
إنّ المشاهد التي تنطوي على فواجع جماعية، أو أكوام من الأنقاض المجرّدة عن البشر، أو تُفصِح عن فحواها المأساوية بصفة مباشِرة؛ كفيلة بأن تصدّ مشاعر التعاطف معها وأن تعطِّل التماثل المعنوي مع مَن يظهرون فيها. يتجلّى هذا في صور ومقاطع تُظهِر ضحايا فارقوا الحياة فتمنح إحساسًا بالعجز عن التصرّف مع ضحايا الكارثة أو بانتفاء القدرة على إنقاذهم أو التخفيف من آلامهم، ويتحاشى الجمهور التواصل البصري معها غالبًا.
ثمّ إنّ بعض الصور والمقاطع المصوّرة تحقِّق تأثيرًا كبيرًا عندما تتجاوز محتواها التقريري النمطي إلى تمكين جمهورها من الاقتراب مما يظهر فيها وتحقيق فرصة معايشة الموقف المأساوي والإحساس بالتفاصيل الواردة فيه. لتقريب هذه الفكرة، علينا أن نلحظ الفارق بين استدعاء معطيات إحصائية جافة، والإحساس بما يكمن خلفها من قصص ووجوه وأسماء، وهكذا تفترق الموادّ المصوّرة أيضًا.
يتّضح أنّ القصة المفردة التي تعبِّر عنها صورة مميّزة أو مقطع فريد تتأهّل لاستحقاق ملامسة وجدان الجمهور؛ وليس الزحام الكمي. فالناس يتخطّون جموع الضحايا على كثرتهم، ثمّ تتعلّق أفئدتهم بطفل واحد أو بطفلة، أو بفرد ذي مواصفات مخصوصة. هذا ما يدركه مصممو الحملات الإغاثية الحاذقون، عندما يطلقون مناشدات التبرّع لصالح المنكوبين ويقدِّمون في المادة المصوّرة وجهًا واحدًا فقط تقريبًا، أو حالة مفردة لأسرة أو لبيت، سعيًا لأن يُشعِروا الجمهور بهذه الحالة المفردة وبالمسؤولية عنها، ولمنح الجمهور الإحساس بالقدرة على تحسين واقعها بما تيسّر لأحدهم من عطاء، خلافًا لمشاهد تظهر فيها حشود غفيرة من المفجوعين وذوي الحاجة فيحسب المتبرِّع أنه عاجز عن إغاثتهم جميعًا.
ثمة مشكلة إضافية تتمثّل في النمطية الاعتيادية التي تفتك بمفعول المادة المصوّرة التي تبدو معهودة وتنخفض بأولوية الخبر مع تكرار الوقائع ذاتها وتعاقُب المشاهد المتماثلة. فعند حدوث نكبة واسعة، مثل زلزال الجنوب التركي والشمال السوري (فبراير/ شباط 2023)، يتلقّى الجمهور طوفانًا من الصور والمقاطع في الشبكات والشاشات. ويأتي هذا العبء الإدراكي مُضاعفًا في الحالة السورية، إذ يبدو مشهد الأنقاض والأشلاء مستهلكًا للغاية بعد أكثر من عقد من الزمن على القصف والتدمير.
تتسبّب هذه الوفرة المصوّرة ومنحاها النمطي في تحريض الجمهور على اختزال القيمة المعنوية للأفراد، الذين قد يقع إدراكهم كمعطيات كمِّية ضخمة، مع نزع الروح عن ذِكرهم، فهم أعداد وإحصاءات غالبًا، وفي سياق كهذا يكون الجمهور بحاجة إلى صورة أو مقطع بمواصفات معيّنة تمنح الضحايا وجهًا إنسانيًا ذا رمزية يتيح فرصة التماثل الوجداني معه ويساعد على الإحساس بالأعداد الغفيرة من الضحايا الذين تختزلهم مؤشرات عددية متصاعدة.
ثمة معضلات أخرى في استقبال المواد المصوّرة من ميدان الكارثة، منها تفاوت جاهزية التعاطف مع الضحايا حسب تحيّزات شكلية معيّنة، وهذا مجرّب في تبايُن الاكتراث بالضحايا في عالم واحد حسب بيئاتهم وألوانهم.
لتعاطف الجمهور مع الكارثة شروطه إذن، فهو يريد أن تظهر الضحية وحدها تقريبًا، وأن تكون أنيقة نسبيًا مع قدر من الوسامة المفترضة أو ظهور أمارات براءة طافحة عليها، وأن تأتي المادة المصوّرة بمواصفات غير صادمة للوهلة الأولى على الأقل، وأن تظهر على الضحية آثار الحياة وإن فارقتها. ثمّ أن لا يبدو المشهد متكررًا ومعهودًا. إنها بعض ما تشترطه ذائقتنا البصرية الجمعية، نحن البشر، كي نُستدرَج أخيرًا إلى حالة تعاطف تُحرِّر وجداننا الإنساني من محبسه، وقد لا نفعل.