"يا شباب فلسطين انهضوا، فالدين والأرض والإنسانية تناديكم، فلبوا النداء، وأعرضوا عن أصوات من رضوا الحياة دون كرامة".. كلمات تركها الشهيد حمدي أبو دية (40 عامًا)، الذي استشهد في اشتباك مسلح مع جيش الاحتلال الإسرائيلي صباح الثلاثاء الماضي، عقب تنفيذه عملية إطلاق نار قرب مدخل "النبي يونس"، ببلدة حلحول شمال الخليل، جنوبي الضفة الغربية المحتلة.
اختار الشهيد "أبو دية" الميتة التي يحبها، وبقيت كلماته في وصية نشرت بعد استشهاده، لتذكر الاحتلال بالحقيقة التي يحاول تناسيها أو تجاهلها، وأظهرت عمق انتمائه لقضيته: "في حربنا هذه، أما علمتم أن عدوانكم يتمحور في إطالة حياتكم على أرض ليست لكم، أما علمتم أن دفاعنا يتمحور في رفع كلمة الله علياء على هذه الأرض؟".
عام 2005 اعتقل الاحتلال "أبو دية" 4 سنوات، كانت مدة كافية ليختلط بالأسرى، ويشاهد المعاناة من كثب، ويخوض معهم معركة نضالية خلف القضبان، كان لها تأثير في تعميق انتمائه لفلسطين، وغرس جذور حبها في قلبه، وكره التفريط والتخاذل في التعامل مع المحتل.
في مقطع مرئي له وهو يرتدي بزته الشرطية نُشر بعد استشهاده، روى تفاصيل اعتقاله، وبدا في ربيع شبابه قائلًا: "كنت متوجهًا ناحية الخليل، أدرس في الثانوية العامة، فأوقفت السيارة قوات إسرائيلية خاصة".
تعود به الذكريات لأول صدام بينه وبين الاحتلال: "أنزلوني من السيارة، وتعرفوا على شخصيتي، لم أتوقع أن يكون هناك شيء، لكن الضابط قال لي: أنت مطلوب للمخابرات الإسرائيلية، واعتقلوني".
عن فرحة حريته بعد اعتقال وتعذيب، كانت إجابته للمراسل الصحفي ممزوجة بمرارة تجرعه كأس الأسر: "فرحة الحرية أغلى ما نملك، لن يعرف قيمتها إلا الذي فقدها"، معربًا عن أمنياته أن يتنسم الأسرى الحرية، ويعيشوا الفرحة التي لم يستطع وصفها.
و"أبو دية" نقيب في الشرطة، حاصل على درجة البكالوريوس في التنمية الاجتماعية، وقدم محاضرات ودورات تدريبية في علم النفس داخل جهاز الشرطة، وفي عدد من الجامعات الفلسطينية والكليات العسكرية.
الشهيد المتمرد
من داخل "بيت السلطة" التي تكبل نفسها وعناصرها باتفاقيات أمنية مع الاحتلال، تمرد "أبو دية" كما تمرد عشرات الشهداء من أفراد الأجهزة الأمنية على تلك العقيدة الأمنية، ورفضوا رفع "غصن الزيتون" لاحتلال يقتل كل شيء، فوجهوا فوهات بنادقهم نحو المحتل.
الجمعة الماضية زار "أبو دية" والدته المسنة، قبَّل يدها وسار عدة خطوات وهو يهم بمغادرة المنزل، قبل أن يرجع ويقبل يدها مرة أخرى، فدفعها تصرفه، وملامحه التي بدا فيها منشغلًا، وشارد الذهن لسؤاله: "معك مشكلة يما؟!" فأجاب بالنفي.
"كان مستعجلًا يريد اللحاق والاستماع إلى خطبة الجمعة".. تعود والدته الثمانينية صبرية أبو دية إلى تلك اللحظات بعدما استطاعت بعد استشهاده فهم ما كان يدور في خلجات نفس نجلها، عندما ذهب إلى الصلاة، وغاب عنها ثلاثة أيام حتى جاءها خبر استشهاده، واحتجاز الاحتلال جثمانه.
"كان يحب الوطن وفلسطين وكل الناس، عنيدًا، مثقفًا يحب القراءة، لم يؤذِ أحدًا، عانى أربع سنوات في الأسر، وفرحت بخروجه، لكنه ظل في إثرها يحب الوطن".. تداهم الدموع صوتها حزنًا على فراقه: "صُدمت باستشهاده، لكنه طلبها، ماذا سأفعل؟ سأتقبل".
في المدة الأخيرة، بات "أبو دية" دائم الإلحاح على والدته بالدعاء له والرضا عنه، لفتها التزامه المتواصل بالصلاة، وقراءته المتواصلة للقرآن الكريم.
الحب الأكبر
و"أبو دية" أب لثلاثة أطفال، وزوجته مريضة بالسرطان، وعلى الرغم من حبه وانتمائه لعائلته، كان حبه لفلسطين أكبر، قائلًا: "اتخذت قراري لأبذل كل طاقتي لتحفيز النية وتغذيتها، والتخطيط للإثخان في دماء الصهاينة، والحرص على البقاء حيًا بقوة من الله، لإلحاق الأذى المتواصل بالعدو".
شاهدة عيان كانت موجودة في موقع جريمة إعدامه، لم ترَ إن كان الشهيد "أبو دية" قد بادر بإطلاق النار، روت ما جرى والدموع تبلل صوتها، وهي تسترجع التفاصيل: "لم أره، سمعت صوت إطلاق النار، وكنا داخل المركبة، فأنزلنا رؤوسنا للأسفل، أصيبت يد ابني برصاصة وحالته طفيفة"، عادة ما حدث "جريمة اغتيال بدم بارد".
استهل "أبو دية" وصيته مستشهدًا بآية من القرآن الكريم "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير"، وقال في مقدمة وصية أراد أن تصل إلى قلوب أبناء شعبه: "وجدت نفسي ألبي نداء الله، في سبيل الدفاع عن حرمة المقدسات وكرامة الإسلام والمسلمين".
لكن بعد مسيرة طويلة من المقاومة، تعرض فيها للأسر وأصيب في مرة، أنهى "أبو دية" الفصل الأخير في رحلة التحدي، لم يغرِه أي شيء عن هدف رسمه منذ زمن، وسعى إلى تحقيقه، وختم به وصيته: "اللهم تقبلني شهيدًا خالصًا مخلصًا في سبيلك، فقد بعت لك نفسي".