فلسطين أون لاين

تقرير ذاكرة مفقودة وشلل.. حكايا الأسير إياد حربيات مع الألم

...
إياد حربيات
الخليل - غزة/ هدى الدلو:

"من أنتِ؟" وأشار بسبابته لشقيقه الذي يجاورها "ومن الذي معك؟"، "لماذا أحضرتِ ضابط المخابرات معك ليحقق معي؟"، لتجيبه بعد أن بحلقت عيناها من صدمتها مما قاله: "أنا أمك" فطلب منها أن تحلف بالله لتؤكد ما قالته.

وقع ما تفوه به الأسير إياد حريبات على أمه كالصاعقة، تجاوزتها سريعًا بعدما علمت أن ابنها عزل نحو ثمانية أشهر خرج منها على كرسي متحرك لا يقوى على دفعه بمفرده.

إياد "41 عامًا" من قرية سكا جنوب مدينة دورا جنوبي الخليل بالضفة الغربية المحتلة، معتقل في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 2002، حيث يقضي حكمًا بالأسر مدى الحياة و20 عامًا، بتهمة الانتماء إلى كتائب شهداء الأقصى والمقاومة الفلسطينية.

فقد للذاكرة

يقول شقيقه يوسف إن إياد قبل اعتقاله لم يكن يعاني أي مرض أو وجع، ولكن في عام 2014 ظهرت عليه العديد من المشاكل الصحية بدأت بالعصبية وتشوش الأفكار، تلاها فقدان للذاكرة لأكثر من عام، بسبب حقنه بمواد طبية مجهولة تسببت له بشلل. وقع ذلك بعد قمع إدارة سجون الاحتلال للأسرى الفلسطينيين في سجن "ريمون" والاعتداء عليهم، حيث تم نقل إياد حينها إلى عيادة سجن "الرملة" وعزله هناك.

يقول يوسف إن شقيقه صاحب بنية جسدية قوية، يزيد وزنه على 100 كيلوغرام، وطوله أكثر من 180 سنتيمترًا، "صحيح تعرض في بداية اعتقاله للتحقيق القاسي لأكثر من عامين، لكن ليس بالصورة التي خرج عليها من عزل 2014، مما جعله يخسر نحو ثلثي وزنه".

يضيف: "كانت لحظات ألم وحرقة عاشتها والدتنا، ولكن الأسرى المرافقين لإياد أخبروها بأنه تعرض لتحقيق قاسٍ، وعزل طويل، وشبْح وضرب وتعذيب، ووعدوها أنهم سيهتمون به، مما جعلها تصبر".

وإلى جانب فقدانه الذاكرة يعاني إياد من مرض عصبي يسبب له رعاشًا مستمرًا فلا يستطيع الوقوف على رجليه، وإذا سجد لا يستطيع الوقوف، إذ يشير يوسف إلى أن الاحتلال لم يكترث لمعاناته، "ففي الزنزانة التي عزل فيها لا يوجد إلا حمام عربي فكان يعينه على قضاء حاجته أسير آخر يقيم معه في العزل ذاته. هذا الأسير كان يربط يدي إياد على عنقه ليُمكنه من الوقوف".

ويلفت يوسف إلى أن الحالة الصحية لإياد دفعت الأسرى للدخول في إضرابات عن الطعام لعدم حصوله على العلاج المناسب والمطالبة بعودته إلى غرف الأسرى الجماعية، مبينًا أنه بعد نقله إلى أقسام الأسرى عملوا على علاجه ذاتيًا بدهن جسمه بزيت الزيتون وقراءة القرآن حتى بدأ يتحسن وضعه الصحي النفسي والجسدي، وبدأ يستعين بالعكازات في المشي بدلًا من الكرسي المتحرك.

انتكاسة

يخبر يوسف أن أمه أصيبت بجلطة من شدة حزنها على حال "إياد" الذي تعرض في عام 2017 لانتكاسة إثر عملية القمع تعرض لها أسرى "ريمون" باستخدام قنابل غازية تسببت بحروق متفرقة في جسده، "كما فقد الحركة مجددًا ومنعنا من الزيارة، ليعود مرة أخرى بجسد ضعيف على كرسي متحرك وذاكرة شبه مفقودة".

وفي العام الماضي نقل "إياد" إلى مستشفى سوروكا بعد فقدانه الوعي بسبب مشكلة حصر البول، ما دفع أطباء عيادة سجن الرملة بعد مماطلة لإحداث فتحة جراحية من سرّتِه إلى أسفل ظهره كي يتمكنوا من إزالة البكتيريا المتسربة، وتركيب كيس لتجميع البراز وأنبوب للبول حتى لا تصل الفضلات إلى المنطقة السفلية من جسده وتسبب له تسمما.

يقول يوسف، إن الأطباء أبلغوهم بأنهم أجروا 5 عمليات جراحية لإياد، وإنهم كل 24 ساعة يقومون بعملية تنظيفات في جرحه المفتوح، حتى لا تتسمم أو يتعفن جسده، وهو في حالة تخدير طبي كامل لأنه لا يمكن له أن يتحمل الألم.

بصعوبة كبيرة استطاعت والدته زيارة "إياد" خلال غيبوبته التي استمرت 35 يومًا، "كان شخصًا ميتًا، حالته يرثى لها، لم تتمالك نفسها، تناجيه بالقول: يما إياد ما تموت بنيت لك دار، بدي أزوجك. لكنها عادت من الزيارة طالبة منهم أن يحفروا قبرًا له!".

وفي زيارتها الثانية بعد خروجه من العناية المكثفة كانت تبكي كلما دخلت غرفته، "ففتح عينيه وقال لها: "اجيتِ يا أغلى ناسي"، ففي هذه المرة عادت والدته لعائلتها لتقول لهم: "كما خرج من الموت سيخرج من الأسر"، ووزعت الحلوى لسلامته.

اليوم لا يزال الألم يستوطن جسم "إياد"، وهو بحاجة إلى عملية جديدة لزرع شبكة من أربطة البلاتين لربط عضلات البطن المتهتكة.

ضريبة القضية

يصف يوسف شقيقه "إياد" بأنه صاحب شخصية قوية وعبقري، كان يدرس الهندسة الزراعية عند اعتقاله، "يلقبه الأسرى بالعالِم، واستطاع أن يحصل على شهادة بكالوريوس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بعدما منعوه من إكمال دراسته للهندسة، ويتقن عدة لغات الإنجليزية والفرنسية والعبرية". 

تفتقد العائلة إياد في كل لحظة وحين، فلم تتجرع غيابه يومًا ما، ولم تعتد عليه رغم مرور عشرين عامًا على اعتقاله، توفي أجداده الأربعة ولم يتمكن من وداعهم وحضور عزائهم، كما تزوج جميع إخوته الأصغر منه ولم يعِش أجواء الفرح معهم.

يقطع يوسف ذلك السرد بالقول: "هذه هي ضريبة العيش في فلسطين، والدفاع عن قضيتنا بدمنا وسنوات من عمرنا".