بعد ساعات من ارتكاب الاحتلال لمجزرته الدامية في مخيم جنين، تتزايد تقديراته بأن حجم ضغطه سيزداد كثيرًا في المدة القادمة على خلايا المقاومة، عبر الاعتقالات والاغتيالات، مع العلم أن هذه المجزرة تتزامن مع الذكرى السنوية الـ21 لمجزرة جنين الأولى في 2002 في أثناء تنفيذ عملية السور الواقي، حين أحدثت المقاومة أضرارًا جسيمة في النظرية العسكرية التي تبناها الاحتلال في أثناء مهاجمته للمخيم، عبر المواجهة الأسطورية التي خاضتها.
إن تزامن المجزرتين الإسرائيليتين في مخيم جنين، يشير أن المقاومة حاولت في الأولى فنجحت، وما زالت تحاول في الثانية، من تقديم نموذج ينسف نظرية الاحتلال العسكرية، وتعيد تثبيت فكرة التجمع الذي لا يقتحم، أي فكرة بيروت وستالينغراد، إذ قدّم "آنذاك" أقصى ما يمكن أن تقدمه منطقة مغلقة، واصلًا للتذكير بأساطير مدن المقاومة، صحيح أنه نموذج مصغر، لكنه محبط لنظرية الحرب الإسرائيلية الجديدة.
في الوقت ذاته، فإن تكرار عمليات الاقتحام الإسرائيلية لمخيم جنين في الشهور الأخيرة، وآخرها قبل ساعات، وارتقاء عدد من الشهداء فيها، يشير إلى أن هناك جهدًا ما زالت المقاومة بحاجته لتحويل المخيم إلى عقبة كأداء أمام الاحتلال، وتكبيده خسائر باهظة، تجعله يفكر مرة أولى وعاشرة قبل اتخاذ قرار الاقتحام.
لقد شكلت مجزرة جنين الأولى، وما شملها من مواجهة ضارية بين المقاومة والاحتلال، مجالًا لدراستها العسكرية، لا من زاوية أهميتها المحلية الفلسطينية، بل من أجل أهميتها العامة؛ بسبب الإمكان المتفجر الذي طرحته، صحيح أن الاحتلال آنذاك سحق المخيم في نهاية الأمر بعد أن أدار وزير حربه شاؤول موفاز المعركة بنفسه من الطائرة، لكنه لم يفعل ذلك إلا بعد أن أوصل المخيم رسالته، ومفادها أن ستالينغراد ممكنة في القرن الحادي والعشرين!
مع العلم أن الاحتلال دأب في الآونة الأخيرة على تصوير الوضع في جنين بصورة مبالغ فيها، إلى الدرجة التي جعلت بعض الأوساط من داخلها تؤكد أننا أمام صورة تهويلية، لها خلفية أمنية استخبارية إسرائيلية، تهيئ الرأي العام الفلسطيني والإسرائيلي لمزاعم تفيد بأن المخيم تحول إلى "عش دبابير"، وأن الخلايا المسلحة فيه تحضر نفسها لشن مزيد من الهجمات المتقدمة كماً ونوعاً، ما سيبرر لقوات الاحتلال الانقضاض عليه على وقع هذه التقارير الصحفية والأمنية.
إن مجزرة جنين الأخيرة فرصة لقراءة الواقع الميداني في الضفة الغربية عمومًا، وجنين خصوصًا، وتحسّس مواطن القوة والضعف، لتعزيز الأولى وتلافي الثانية، وفي الوقت ذاته وضع اليد على الخواصر الضعيفة للاحتلال، لمحاولة النيل منه، وعدم تحويل اقتحام المخيم كما لو كان نزهة له في نهاية الأسبوع.