تداولت وسائل الإعلام أخيرًا أخبار اجتماع تحضيري لما يسمى "منتدى النقب" بالعاصمة الإماراتية أبو ظبي، وحضره حوالي 150 شخصًا يمثلون الدول الست المشاركة في المنتدى: الإمارات، والبحرين، والمغرب، ومصر، والولايات المتحدة والكيان الصهيوني.
ووفق وسائل الإعلام فقد تم التباحث في أوجه التعاون بين هذه الدول في مجالات عدة في مقدمتها الأمن والاستخبارات والاقتصاد إلى جانب المياه والزراعة، كما أكدت وسائل الإعلام نجاح الوفد الصهيوني في إزاحة القضية الفلسطينية عن طاولة البحث، باعتبار أن المنتدى ليس مخصصًا للبحث في الملفات السياسية.
سواء نجح الوفد الصهيوني في ذلك أو لا، فإن واقع عمل المنتدى وتطوراته يؤكد حقيقة خضوع الوفود العربية للرؤية الصهيونية من القضية الفلسطينية، فالعرب في عام 2002 تبنوا رسميًّا المبادرة العربية، التي كانت مبادرة من المملكة العربية السعودية قدمها ولي العهد السعودي في حينه الأمير عبد الله بن عبد العزيز.
من أهم ما توافق عليه العرب في حينه أنهم لن يخطوا أي خطوة في اتجاه التطبيع مع الكيان قبل حل الصراع العربي – الصهيوني وعودة الحقوق لأصحابها. صحيح أنّ رئيس وزراء الكيان حينها شارون أكد أنّ المبادرة العربية لا تساوي الحبر الذي كتبت به وألقاها في سلة المهملات، إلا أن اجتماعات المنتدى المتتالية والحرص على توسعتها في كل مرة على مستوى مساحات التعاون والدول التي يمكن أن تنضم لها، ما عدا طبعا أصحاب القضية من الفلسطينيين، هي انقلاب على مبادرة العرب أنفسهم.
للأسف فقد حفظ الصهاينة الدرس جيدًا، فالعرب منذ نشأة الكيان وهم يرفعون شعارات "رنانة" ويتمسكون بها مدة من الزمن ثم سرعان ما يتنازلون عنها ويستسلمون للموقف الصهيوني والإرادة الأميركية من ورائه، وهكذا دواليك على مدار عقود من الصراع، إلى أن وصلنا لهذه المحطة المخزية المسماة "منتدى النقب"، التي جعلت من التطبيع مع الكيان، بل دمجه في المنطقة، هدف المنطقة الإستراتيجي والقاعدة التي تبنى على أساسها التحالفات وتقدر المصالح الوطنية.
وقالت وزارة الخارجية الإماراتية، في بيان على موقعها الإلكتروني، إنها تعد هذه الاجتماعات استكمالاً لما تم الاتفاق عليه خلال الاجتماع الوزاري الذي عقد في مارس/آذار 2022 في النقب، حيث يهدف المنتدى إلى تعزيز التعاون بين الدول وتحقيق مصالح شعوب المنطقة، بما فيها الشعب الفلسطيني.
غريبة مثل هذه التصريحات التي يدّعي فيها البعض حرصه على الشعب الفلسطيني ومصالحه، في الوقت الذي يتم التحالف والتعاون مع ألدّ أعدائه، من يعلن جهارًا نهارًا عن مخططاته لضم الأراضي الفلسطينية وتهويد القدس والسيطرة على المسجد الأقصى، ينشر مخططاته للقتل والتشريد وتصفية الأسرى الفلسطينيين وشطب ملف اللاجئين، ينادون في كل المناسبات "الموت للعرب" ويعلنون احتقارهم للقانون الدولي ومؤسساته، كما صرّح كبيرهم نتنياهو بعد قرار الجمعية العامة بالذهاب إلى محكمة العدل الدولية لطلب الفتوى حول واقع الاحتلال وحقيقة ضمه فعليا للأراضي الفلسطينية ومنظومته القانونية العنصرية.
عقد الاجتماع الأول للمنتدى في مارس/آذار 2022 على أراضينا الفلسطينية المحتلة في النقب، في ظل الحكومة الصهيونية السابقة، التي حاولت أن تقدم نفسها للعالم باعتبارها حكومة "معتدلة"، رغم أن عام 2022 الذي حكمت فيه كان الأكثر دموية منذ 2005، حيث قتل فيه أكثر من 230 فلسطينيا بريئا وتم تجاوز الخطوط الحمراء في المسجد الأقصى بشكل غير مسبوق منذ عام 1967.
لكن ما المبرر أو المنطق من الدعوة للاجتماع التحضيري لمنتدى النقب 2، وبهذا الزخم والتوسع في ظل حكومة فاشية مشكّلة من مجموعة من الإرهابيين والعنصريين، حتى بمقاييس الغرب بل والاحتلال نفسه، فماذا نتوقع من مثل هذه الأنشطة؟
إمّا أن القيادات العربية المجتمعة لا تقرأ هذا الواقع الصهيوني وتداعياته الخطيرة ليس على القضية الفلسطينية فقط، بل على الأمن والاستقرار في الإقليم والعالم، ما حفز الدول حول العالم، بما فيها حليفة الكيان الأقوى أميركا، لرفع صوتها في كل المحافل للتحذير من هذه الحكومة الفاشية وسياساتها.
وإما أن القيادات العربية تعي هذه التحولات جيدًا، ولكنها وضعت الفلسطينيين وقضيتهم وراء ظهرها، وعدَّت أن "مصالحها الوطنية" الموهومة مقدمة على أي شيء آخر، حتى لو كانت القدس والمسجد الأقصى، وحتى لو شكلت انقلابًا على مبادرة أجمع عليها العرب في حينه، وإن كنّا نعدها لا تمثل الحد الأدنى لطموحاتنا وتطلعاتنا الفلسطينية.
الكيان الصهيوني توجه نحو الموجة التطبيعية الجديدة مع الإقليم بعد أن فشل في تحقيق هدفه الإستراتيجي في احتواء "المشكلة الفلسطينية" وتعسّر في هضم تداعياتها، حيث حاول بكل السبل وأكثرها وحشية التخلص من الفلسطينيين أو إخضاعهم لسيطرته.
وعلى الرغم من مرور عقود على المواجهة، فلا يزال شعبنا، بعد 100 عام على المواجهة مع المشروع الصهيوني، يرفض الخنوع، ويقاوم بكل قوة وعنفوان، ومستعد للتضحية بكل ثمن من أجل حرية ناجزة وعودة كاملة، ولعل الأشهر الأخيرة من المواجهة في الضفة والقدس المحتلتين وسقوط الشباب في عمر الورد شهداء على مذبح الحرية، وأغلبيتهم لم تحركه أحزاب أو تنظيمات، بل مبادرات فردية تعكس حجم الغضب والشوق للحرية المخزون لدى هذا الشعب.
في الوقت نفسه الكيان بعد عقود من المواجهة الفاشلة ديموغرافيا، استنفد معظم موارده البشرية حول العالم، بل إنّ كثيرًا من التقارير تتحدث عن زيادة الرغبة في الهجرة المعاكسة والحصول على جنسية أخرى احتياطا للمستقبل في ظل القلق المتزايد على مستقبل الكيان مع صعود اليمين الفاشي، حيث وصل الكيان إلى مفترق طرق داخلي حول هوية الدولة بوصول اليمين المتطرف إلى سدة الحكم، ومحاولتهم لخلق "دولة الشريعة" ونسف الأسس التي قامت عليها الدولة في "وثيقة الاستقلال"، التي كانت المبرر الأهم في استقطاب اليهود حول العالم وتوفير الدعم الغربي اللامحدود للكيان.
إذًا يعيش الكيان مأزقًا إستراتيجيًا يهدد وجوده وقدرته على الاستمرار، ومن هنا جاءت فكرة "التطبيع" مع الإقليم للخروج من أزمته الوجودية، حتى تساعده دول المنطقة على تعويم "المشكلة الفلسطينية" في سياقات كبرى، بعد إعادة تعريف المنطقة، والأصدقاء والأعداء، والمصالح والقيم، على أسس جديدة.
ومن هنا فإنّ الادعاء بأن أحد أهداف هذه الاتفاقيات خدمة الشعب الفلسطيني وقضيته للأسف غير صحيح، وفيه كثير من التدليس، بل إنها تعرض القضية والحقوق الفلسطينية لخطر شديد، وبأيدٍ عربية. ولا أدلّ على ذلك من إصرار ممثلي الكيان على رفض مناقشة الملف السياسي للمشكلة في إطار المنتدى.
وعليه يكفي بيع الأوهام وتسويق السراب والأصل أن يرفض العرب مشاركة الكيان وممثليه في أي نشاط، من أي نوع كان، حتى يرضخ للمطالب الفلسطينية بالحرية والاستقلال والعودة.