لوّح بيده لزوجته من داخل سيارته وكأنَّها إشارة مودّع، قبل أن ينطلق أحمد حسن كحلة (45 عامًا) ونجله قصي (20 عامًا) تجاه قرية "السودان" قضاء رام الله، بحثًا عن لقمة "عيش" مغمسةً بشقاء التنقل بين المحافظات والقرى الفلسطينية، وإذلال وتفتيش جنود جيش الاحتلال للمركبات على الحواجز العسكرية.
صباح الأحد الماضي، أسفل جسر يبرود، شرق رام الله، حيث ينصب حاجز عسكري مؤقت، تعطّل إطار سيارة "امرأة"، كما روى شهود عيان، فنزل "كحلة" ونجله لمساعدتها، وعند عودتهما إلى سيارتهما الخاصة، نادى عليهما جنود الاحتلال قبل أن يطلقوا قنابل الصوت تجاههما، ارتطمت إحداها في سقف السيارة.
إعدام من مسافة صفر
أنزل "كحلة" زجاج سيارته واحتج على استهداف الجنود لسيارته ودارت مشادة لفظية بينهم، لكنهم عاجلوه برش غاز الفلفل صوب وجهه ووجه ابنه قُصي الذي اعتقلوه في البداية قبل أن يطلقوا سراحه لاحقًا.
وعلى الرغم من غيابه عن الوعي بسبب رش الغاز، أظهر مقطع مصور التقطه أحد المواطنين الذين كانوا لحظة الجريمة، اعتداء عدد من جنود جيش الاحتلال على "كحلة"، وعندما حاول التصدي للضرب والاعتداء بيديه أطلق أحد الجنود الرصاص على رقبته من مسافة صفر دون أن يمثل أيّ تهديد لهم.
ابنه قصي الذي شهد جريمة إعدام والده أمام عينيه، وهو الذي كان يجلس معه قبل لحظات ويضحكان ويبتسمان، تعرض للإصابة ونُقل في إثرها للمشفى، تحسنت حالته، لكنّ الجريمة تركت أثرًا نفسيًّا في داخل قلبه، وجرحًا لا يندمل، لا تحيكه الخيوط الطبية.
تركت الجريمة مشهدًا لن يُحذف من ذاكرته طيلة حياته، في لحظةٍ أصبح مُعيلًا لعائلته، ويحمل على كاهله حملًا ثقيلًا تركه له والده.
اقرأ أيضًا: القيادي حماد: إعدام المواطن كحلة جريمة جديدة يرتكبها الاحتلال
رنّ هاتفها في أثناء وجودها بالعيادة الطبية للمراجعة، كان المتصل ابن شقيقتها، احتارت كلماته وتقطعت، وتاهت حروفه كثيرًا، قبل أن يخبرها جزءًا من الحقيقة: "زوجك تصاوب، ونقل للمشفى" وتركها تشاهد بأم عينيها عندما تذهب للمشفى.
وصلت إلى المشفى وهرعت نحو غرفة العناية المكثفة، تسأل الأطباء بقلق منتظرةً إجابة تبرد مخاوفها: "هل استُشهد؟"، رأفةً بحالها قال لها الطبيب: "لم يستشهد بعد"، لكنها انتبهت إلى عدم وجود أجهزة طبية تحاول إسعافه.
انتبهت زوجته إلى جسده الساكن بلا حركة، فأيقنت الإجابة ولم تكن بحاجة إلى السؤال مرةً أخرى، صرخت، ثم عانقتْ زوجها، تذرف دموعًا احترقت بنار الفراق.
شهيد "اللقمة"
يجرح الفقد صوتها، تنصت صحيفة "فلسطين" لوجعها عبر الهاتف: "رأيت فيديو إعدامه، هو شهيد اللقمة كان خارجًا إلى عمله، لكنهم وضعوا حاجزًا ومنعوا المواطنين من الذهاب أو العودة".
تمنح نفسها بعضًا من التماسك، تستحضر آخر صورة له قبل أن تغرب شمسه بلا عودة إلا من مرور عابر على الذاكرة: "عاد من عمله مساء السبت، واستبدل ملابسه لأول مرة، نام نومة مريحة، واستيقظ صباح الأحد الساعة السابعة والنصف، وكان في عجلة، سبق قُصي إلى السيارة وغادرا معًا".
يتكئ صوتها على عكاز الصبر: "حسبي الله ونعم الوكيل، كل يوم نودع شهداءً، والعالم بلا ضمير، ولا إحساس، لا أحد يسمعنا إلا الله".
تجيب عن وضع قصي: "هو بخير وصحة جيدة، لكن نفسيته متأثرة بإعدام والده أمام عينيه".
ولدى الشهيد، الذي ينحدر من قرية رمون شرق رام الله، أربعة أولاد (بنتان وولدان)، كان ينتظر الاحتفال بنجاح ابنته ضحى بالثانوية العامة "توجيهي"، تعلق زوجته: "جهّز لها احتفالًا مميزًا، وكان ينتظر تفوقها والاحتفاء بها".
ترد له شيئًا من الجميل، وإن كان بكلمات تمدحه بها: "هو نعم الزوج والأب الحنون، كان صديق الجميع يساعد الكل حتى لو بآخر شيقل في جيبه وهو يحتاج إليه ويجد من يطلبه، فإنه يقدمه له، الكثيرون جاؤوا لبيت العزاء بعد استشهاده، وتحدثوا عن مواقفه في عمل الخير".
اقرأ أيضًا: جماهير رام الله تُشيّع جثمان الشهيد أحمد كحلة
تبكي رحيله: "كان حنونًا على أبنائه يُفضّلهم على نفسه وعلى أيّ شيء، عشت معه 20 عامًا كان الحلو فيها أكثر من المُر، تحملنا كل الصدمات كان سندًا لي لا أنسى وقفته معي عندما توفي والدي".
في الليلة الأولى لاستشهاد زوجها، جاءها طفلها حسن "5 سنوات" يعاتبها ببراءة: "أنت وديتي بابا عند أمه بالجنة!"، أومأت برأسها وأخفت دموعها أمام طفلها، وهي تنظر إلى مكان زوجها الفارغ.
نام الطفل على فراش والده وغفى على وسادته يحاول سد الفراغ، وتعهَّد ببراءة لأمه: "بدي أضل أنام مكان بابا هان"، في حين كانت هي تربط على جرحها، حينما وصلت رأس الرصاصة الإسرائيلية إلى رقبة زوجها، بينما انفجر جسمها في قلبها، وتركت فراغًا لا يملؤه شيء.