تحدثتُ عبر الهاتف مع المحرر كريم يونس، وهنأته بالسلامة وأنا في قمة الانفعال والتوتر، فأنا أسمع صوت كريم يونس لأول مرة بعد ثلاثين عامًا، حين فارقته في سجن نفحة ولكنني لم أفارق أحاديثه الخاصة، وتحليلاته السياسية، وآراءه الواقعية والمميزة في الوضع الفلسطيني.
ثلاثون عامًا على الفراق، لم تتبدل نبرة صوته، ولا طريقة حديثه، ولم تمس ذاكرته الخلل والنسيان، لقد ناداني بالكنية التي كان يناديني بها في سجن نفحة، وهو يقول: ثلاثة أيام وأنا أعيش في مرحلة انعدام الوزن، أشاهد الدنيا بأعين جديدة، وأسمع الأصوات من حولي، بذبذباتها غير المألوفة، وأضاف: وما يزال أعداؤنا يلاحقون علم فلسطين، بالأمس داهموا مكان الاحتفال، فقد أغضبتهم راية الشعب الفلسطيني.
قلت: لقد غدوت رمزًا وطنيًا يا كريم، وسكنت أفئدة الملايين من الفلسطينيين والعرب والمسلمين، لقد بلغت المنزلة التي لم يرتقِ إليها أي فلسطيني من قبل، وهذا سيثقل على كاهلك، وسيلقي عليك الكثير من المسؤولية، والمهمات التي يتطلع شعبك لتحقيقها، وأنت صاحب تجربة، وأعرف بها.
كريم يونس يعرف غزة وأهلها أكثر ما يعرف سكان بلدته "عارة" في فلسطين 48، فقد عاش كريم يونس جلّ عمره مع أهل غزة في السجون، يعرف منهم آلاف الأسرى الذين مرّوا عليه، وحين دعوته إلى زيارة غزة، قال: أنا نصف غزاوي، وقد يكون من المبكر التفكير بالطريقة التي سأزور بها غزة لكنني سأزور غزة، ففيها أهلي وأحبتي وأصدقائي، فأنا أعرف غزة بشوارعها ومقاومتها، وأبراجها المقصوفة، وصواريخها المدويّة، وشهامتها، أعرف غزة بمدنها ومخيماتها التي تمثل الأمل لكل فلسطين.
معنويات كريم يونس العالية، وثقته بنفسه وشعبه ستنعكس على الأجيال، ففي الوقت الذي ظن العدو الإسرائيلي أن 40 سنة من السجن، ستردع شباب فلسطين، وسترعبهم، وتحول بينهم وبين المقاومة، كان الاستقبال والاحتفال والاحتضان الجماهيري تأكيدًا وتعويضًا روحيًا عن سنوات السجن المادية، وهذا بحد ذاته حافز للشباب الفلسطيني، وجميعهم يتمنون أن يكونوا كريم يونس.
لكريم يونس موقفه من الانقسام، فهو رجل وحدوي، وله رأيه النقدي المستقل بالأوضاع الفلسطينية، وكان أول من صدمنا برأيه في سجن نفحة، حين قال لنا: "لقد خذلتنا القيادة الفلسطينية، وتخلت عن الأسرى، حين وقعت على اتفاقية أوسلو، نحن الأسرى لا ذكر لنا في الاتفاقية المشؤومة" لذلك، لن يكون كريم يونس مجرد عضو لجنة مركزية في حركة فتح، سيكون قائدًا فتحاويًا من الطراز العتيق، قائدًا فاعلًا ومؤثرًا وناقدًا، ومحرضًا على إنهاء الانقسام، مع رسم إستراتيجية جديدة لمواجهة الاحتلال، إستراتيجية تغاير ما تسير عليه القيادة الحالية.
في أحد الأيام، وقبل ثلاثين عامًا، حدثني كريم يونس في سجن نفحة، وقال: بتاريخ 20/5/1985، ورد اسمي ضمن صفقة تبادل الأسرى التي أنجزتها القيادة العامة، 1200 أسير فلسطيني، مقابل 3 جنود إسرائيليين أسرى في لبنان.
أضاف كريم: في ذلك اليوم خرجت من السجن، ووصلت مع بقية المحررين إلى مطار اللد، وصعدت سلم الطائرة، ووضعت حزام الأمان، وتحركت الطائرة للإقلاع، وسط هتاف المحررين وتكبيراتهم، وفجأة، توقفت الطائرة، وصعد ضابط أمن سجن عسقلان، ومن خلفه جيش من الشرطة، قرأ الضابط أسماء 18 أسيرًا، وطلب منهم النزول من الطائرة، كنت واحدًا منهم، حينها وضعوا القيود في معصمي، وأعادوني إلى سجن نفحة.
2022، وبعد عشرات السنوات من الصمود خلف القضبان، يطلق سراح كريم يونس، وقد أنهى مدة محكوميته كاملة، ولسان حال الشعب الفلسطيني يقول: "لماذا خذلت الثورة الفلسطينية أبطالها مدة 40 سنة في السجون؟".