غزة/ يحيى اليعقوبي:
أعطاه ضابط الاحتلال أوراقه وأغراضه التي كان يحملها عندما دخل السجن قبل أربعين سنة وهو لم يزد عمره آنذاك عن 25 عامًا، وبقيتْ تلك المقتنيات شاهدةً على حكايةٍ مأساة وصمود مصغرة من مأساة أكبر لا يزال الشعب الفلسطيني يعيشها منذ عام 1948، تسكن بين تعرجات وجهه وملامحه حينما خرج بعمر تجاوز الخامسة والستين، فقال له الضابط مشيرًا بيده نحو المحطة: "شايف هديك المحطة؟ روح واركب بالباص، وروّح لحالك".
سار عدة خطوات، لأول مرة تلامس قدماه الأسفلت، ويتنفس هواء الحرية، ويرى الشمس واضحة دون شباك في سقف السجن تمنع دخول أشعتها، التقى ببعض العمال الذين حددوا له اسم المنطقة، واستعان بهاتف أحدهم للاتصال بأشقائه الذين جاؤوا ونقلوه بسيارة.
اختارت إدارة السجون الساعة 5:40 صباحًا، لاقتحام سجن "هداريم" مستخدمةً أسلوب المفاجأة والتضليل، إذ نقلت الأسير يونس عبر أربع سيارات لمخابرات الاحتلال بطريقة عسكرية بحيث كانت كل سيارة تقترب من الأخرى لتنقله بداخلها دون أن يلامس الأرض، وتركوه وحيدًا أمام محطة الحافلات في "رعنانا" شمالي (تل أبيب).
على مدخل قرية "عارة" تجمع الأهل والأقارب والجيران لاستقباله، وصلت السيارة تتوهج بمصابيحها الصفراء وتقرع بوقها من بعيد معلنةً بدء الفرحة، عانق الأهل وسار معهم ينشد لعلم فلسطين، اختلط صوته بأصوات المهنئين حوله: "علمنا علم فلسطين.. واجب علينا نرفعه".
أراداها الاحتلال أن تكون مراسم صامتة، تخلو من مشاهد الاحتشاد ورفع العلم وشارة النصر، لكن الفرحة التي عمت بلدة عارة بمنطقة المثلث داخل الأراضي المحتلة عام 1948 لحظة وصول أقدم أسير فلسطيني إليها معلنًا انتصاره على السجان، أحدثت ضجيجًا صاخبًا عمَّت كل أرجاء فلسطين، فقد عاد للوطن كريمًا.
كبرت مراسم الفرح من تجمع صغير إلى تجمع أكبر، وغنت نساء "عارة" الأناشيد والأهازيج احتفاءً بحرية طال انتظارها، إلا تلك السيدة التي عدّت الأربعين عامًا بثوانيها وأيامها وسنواتها، نظر إلى وجوه الجميع ولم ير صورة أمه التي غيّبها الموت في الخامس من مايو/ أيار 2022.
فكانت وجهته نحو أمه، حيث جثى أمام شاهد من رخام عليه اسمها واحتضنه، في مشهدٍ اختلفت فيه المراسم وتبدلت، وقف على أطلال الحزن ليستقبل المعزين بعد ثمانية أشهر، ووارى روحها بدموعه التي تساقطت على قبرها.
كلمات محررة
الأسير كريم يونس؛ عميد الأسرى الفلسطينيين وأقدم أسير في العالم، غيبه الاحتلال منذ اعتقاله عام 1983، إذ حكم عليه بالسّجن المؤبد الذي حُدد لاحقًا بـ40 عامًا.
مع مطلع يناير/ كانون الثاني 2022، بدأت الحاجة "صبحية" العد التنازلي للأشهر الأخيرة، تحسب الأيام المتبقية بدقة، لم تعد تنتظر أن يمن عليها الاحتلال بالإفراج عنه، فقد دفع ابنها فاتورة محكوميته من سنوات عمره كاملة، حتى داهمها الموت قبل أن يصل إليها.
بعد نيل الحرية، قال عن أمه: "زارتني في السجن ما يقارب 700 زيارة، كانت تقاتل لتصلني في السجن، لم تكل رغم ما نثره المحتل من أشواكٍ في دربها، وكنت أستمد قوتي منها ووالدي، وهما من كانوا يواسونني وأنا في الأسر".
ينطبق صوته على كلمات اختلط فيها الحزن بالفرح، متممًا: "برغم الألم والفقدان إلا أنني شعرت بسعادة وفخر عندما علمت أنَّها لُفت بالعلم الفلسطيني".
لم تعد الدنيا في الخارج كالتي عاشها قبل أسره، حتى أنه لم يجد وصفًا كذلك لمشاعر حريته: "اللحظات الأولى لا توصف، وهذه أول ليلة أرى فيها القمر وأرى فيها الدنيا قد تغيرت، خرجت لعالم يختلف عن عالمي".
أبدى يونس استعداده في كلمته أمام المهنئين لتقديم مثلما قدم مرة أخرى، قائلا: "تحية لشعبنا الذي يناضل منذ 100 عام ولم يرفع الراية البيضاء، لدينا استعداد لتقديم أكثر من ذلك في سبيل حرية فلسطين، بأن أقدم 40 عامًا أخرى من عمري فداءً لشعبي، وكل الأسرى لديهم القوة والعطاء لأن يقدموا أربعين وخمسين عامًا من أجل حرية شعبهم".
منذ عشرة أيام تحاول مخابرات الاحتلال الحد من الاحتفالات المتوقع تنظيمها احتفاءً بعودة يونس إلى وطنه وبلدته وشعبه، يروي: "قابلني مسؤول المخابرات وحاول تهديدي بالحكومة الإسرائيلية الجديدة بوجود المتطرفين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، فقلت له: تلك العصابات لن تثنينا عما نريد، سأحتفل في بيتي وبين إخوتي وأهلي، فقال: هذا أيضًا ممنوع".
انفض اللقاء، وترك يونس الذي تمرد على السجان أربعة عقود كلماته متحديًا: "اللي بدك إياه اعمله".
الموت وصل أولًا
لآخر سنة، كانت أمه المسنة تخزن الأغراض التي يحبها؛ حبات الرمان، والزعتر، والزيتون، والجبن العربي، وتنتظره صباح مساء، تريد تعويضه عن سني السجن التي أكلت من روحه وحرمته من كل شيء يحبه.
"أعيش في صراع مع الموت في أيامي الأخيرة، من سيصل إلى كريم قبل الآخر، أنا أم الموت؟".. كان وقع كلماتها قاسيًا على ابنها الآخر نديم وهي تحرر أشواقها من شفتيها الراجفتين بسبب تقدمها في العمر: "بدي أفطر أنا وإياه، بدي أحمله أو يحملني، آكل معه الزيت ورغيف الخبز".
تذكّر ابنها أنها لا تزال قوية، فقد تجاوزت آخر وعكتين صحيتين، وتأمل أن تتجاوز الوعكة الجديدة "هيّاتني قوية.. عشان أشوف كريم".
"حأضل أستناك يمّا".. بصوتها الخافت وهي على سرير المرض تلفظ أنفاسها الأخيرة، أما هو فأخذ نفسًا عميقًا مليئًا بالألم، ابتسم صوته عبر الهاتف ليمنحها شحنة صبر: "أنا صابر، قوي، يما بس انتِ ارجعيلنا بقوتك، مش ضايل إلا تسعة أشهر".
تحدت والدته المرض وجسدها المنهك، في معركة غير متكافئة، لا تمتلك فيها إلا الإرادة والعزيمة والشوق، وكلها مشاعر ليستْ كافية لتواصل الانتظار، فالعمر فرض أحكامًا قاسيةً على جسدها، تمامًا كما فرض الاحتلال حكمًا قاسيًا على كريم، حتى أنه لم يسمح له بالخروج قبل الموعد المحدد لنهاية الحكم لرؤية والدته قبل أن يخطفها الموت، فكانت حرية منقوصة غاب فيها أهم طرف يفترض تواجده.