يستدل من وثيقة داخلية لـما يسمى "الإدارة المدنية" في الضفة الغربية نشرتها صحيفة "هآرتس" مؤخرا، أن نقل هذه "الإدارة المدنية" من مسؤولية جيش الاحتلال، إلى وزارة المالية التي سيتولاها بتسلئيل سموترتش بناء على طلبه، هو بمثابة تحصيل حاصل لواقع ترسخ على مدى سنوات وأصبح فيه المستوطنون هم من يحكمون غالبية أراضي الضفة الغربية المتمثلة بالمناطق ج والتي تشكل 61% من مساحتها.
وباستثناء المدن الفلسطينية التي غدت جيوبا لا يربط بينها تتابع جغرافي والتي نقلت غالبية صلاحيات "الإدارة المدنية" فيها إلى السلطة الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو، فإن المستوطنين هم من يحكم فعليا سائر مناطق الضفة الغربية، في حين يقوم الجيش على حمايتهم ويعمل موظفو "الإدارة المدنية" على توسيع وتعزيز سيطرتهم على الأرض.
وعندما نقول "حكم" في هذا السياق فإن الحديث لا يجري عن أدوات ووسائل حكم تقليدية، بل عن مجموعة سكانية هي "المستوطنون" تتحكم بتفاصيل حياة الفلسطينيين في هذه المناطق التي يتعاملون معها وكأنها "ملك خالص" لهم يحظر على أصحابها الأصليين "العبث" به، ولهذا الغرض فإن كل مستوطن هو حاكم ومراقب لكل سكنة وحركة يقوم بها الفلسطيني، الذي بات ممنوعا عليه البناء والتعمير والإنشاء والحفر فوق أرضه وتحتها.
وعلى سبيل المثال فإن شق شارع وتسهيل أرض وحفر بئر ومد أنبوب مياه وحتى بناء خيمة، أو مجرد تحريك آليات من قبل الفلسطينيين، هي عمليات تقع في دائرة الممنوع وترصدها رقابة عيون المستوطنين، الذين يسارعون في الإبلاغ عنها لموظفي "الإدارة المدنية" الذين يسارعون بدورهم بوقفها وتغريم أصحابها.
الوثيقة الداخلية التي نشرتها "هآرتس" ضمت 1168 تبليغا عن "مخالفات فلسطينية"، من هذا القبيل في الفترة الواقعة بين الأول من آذار/ مارس وحتى التاسع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الجاري، وهي تكشف عن مدى تدخل المستوطنين في عمليات "الإدارة المدنية" وجيش الاحتلال، بكل ما يتعلق بإحباط عمليات البناء والبنية التحتية، بهدف طرد الفلسطينيين من غالبية أراضي الضفة الغربية ومنعهم من تخطي الجيوب التي خصصتها لهم (إسرائيل).
ولتسهيل حكم المستوطنين وتحكمهم بحياة الفلسطينيين، عملت "الإدارة المدنية" مؤخرا، كما يكشف تقرير "هآرتس"، على استبدال "المركز الهاتفي" الذي أقامته عام 2020، بهدف معلن يتمثل بتنجيع عمليات الهدم والبناء الفلسطينية في المناطق ج، بـ"نموذج إلكتروني"، صمم خصيصا للإبلاغ عن "مخالفات" يعتقد أن الفلسطينيين يقومون بها ضد "قانون" التنظيم والبناء.
وإذا كانت "غرفة الطوارئ" أو "المركز الهاتفي" الذي أقيم عام 2020 قد أعلن "رفعا للعتب" أنه سيخدم الفلسطينيين أيضا، فإن "النموذج الإلكتروني" غير قائم باللغة العربية أصلا، وبالرغم من قيام الفلسطينيين بالإبلاغ يوميا بطرق أخرى عن مخالفات يقوم بها المستوطنون، لا تلقى شكواهم أي اهتمام لأن كل الموضوع يتم في إطار "المعركة على المناطق ج" التي تسعى الصهيونية الدينية والمستوطنون إلى "ضمها" إلى (إسرائيل).
ولتحقيق هذا الغرض، يتوجب تضييق سبل الحياة والعيش على سكان هذه المناطق لدفعهم للرحيل عنها إلى مناطق ب وأ، بغية تقليص عدد السكان الفلسطينيين انسجاما مع المعادلة الصهيونية بضم أكبر مساحة من الأرض بأقل عدد من السكان، كذلك يجب منع الفلسطينيين من البناء على أرضهم بواسطة عدم منحهم تراخيص بناء من جهة، وهدم البناء غير المرخص من جهة أخرى، وفي هذا الصدد تشير معطيات "الإدارة المدنية" لعام 2020 إلى أنه من بين 570 طلب استصدار رخصة بناء قدمها الفلسطينيون تمت الموافقة على خمسة طلبات فقط، وفي عام 2019 تمت الموافقة على طلبين فقط من بين 495 طلبا لاستصدار رخصة بناء.
بالمقابل، سجل العام 2019 ارتفاعا بنسبة 45% في هدم المباني الفلسطينية ومصادرتها في هذه المناطق، حيث أفادت معطيات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة "أوتشا"، بأنه جرى عام 2019 هدم 393 مبنى مقابل 271 مبنى جرى هدمها أو مصادرتها عام 2018، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع عدد الفلسطينيين الذين بقوا بدون مأوى من 218 شخصا عام 2018 إلى 507 أشخاص عام 2019.
من هنا، فإنه عندما يطالب سموتريتش بنقل "الإدارة المدنية" لأمرة الوازرة التي سيتولاها (المالية) أو إلى إدارة يكون على رأسها وزيرا من حزبه في وزارة الأمن، فإنه ينفي الطابع العسكري الذي يذكر بالاحتلال عن المستوطنات وأراضي الضفة الغربية عموما، ما يعني "ضمها" عمليا إلى (إسرائيل)، بل وتولي المستوطنين، بوصفه واحد منهم فعلا وأيديولوجيا، إدارة شؤونهم الذاتية من خلال "الإدارة المدنية" أيضا.