كاتب هذا المقال قضى في السجن قرابة ثلث هذه المدّة، كانت رحلة قاسية، وطويلة، وعميقة الألم، مضت بشقّ الأنفس، ولا يستطع من جرَّب السجن، مجرَّد تخيَّل كيف مضى هذا الرقم المهول على نائل. حياة مديدة من الألم، والمعاناة، والقهر، والتحدِّي، والأمل، ومقاومة الهزيمة، وعمل المستحيل؛ لتحقيق الانتصار، هو لا يحسب، ويصبر فقط، وإنما ينتج، ويبدع، ويشكل نموذجًا ثوريًا يطرح الثورة بوعي، ويشع نورًا خالصًا من عمق جحافل الظلام. هو في معركة مفتوحة يخوضها بأقصى ما لديه من قوَّة وعنفوان، معركة لا تتوقّف بحلول الظلام، لا هدنة فيها، ولا استراحة، ولا ما يحزنون.
لا يمكن أن تكون السنواتُ الثلاث والأربعون رقمًا عاديًّا، لو كان موظفًا في مؤسسة، لنال ما نال من الإجازات، والمكافآت، وهو لا يبذل لوظيفته سوى أقلّ من ثلث يومه، في حين يبذل نائل كلَّ يومه دون أي إجازة، أو مكافأة، هو مستمر يواصل الليل والنهار دون أي مقارنة بمن ينعم بحريته فيختار وظيفته، وطعامه، وشرابه، ويبيت في بيته مع أهله وبنيه، ثم تجد من يشكو ألم الوظيفة وروتينها القاتل، ومعاناتها القاسية، لا مقارنة أبدًا بين هذه وتلك.
ثلاثٌ وأربعون سنة ليست رقمًا عاديًّا، فكم عدد، وكم تفتيش، وكم قمع، وكم إضراب، وكم عقوبة، وكم نقل، من سجن لآخر وكم مداهمة ليلية، وكم محكمة من مهازلهم المقيتة، وكم عيد وكم رمضان مرّ عليه، وكم خبر وفاة لقريب أو جار أو عزيز طوى على حزنه مكروبًا دون أن يُظهر ألمه الداخلي كي لا يشمت به عدوّه.
ثلاث وأربعون سنة مضت ثقيلة قاسية مستمرة في زرع الألم ينوء عن حملها العصبة من الرجال، تحمّلها نائل وحده، وهو أمام عدو فريد ومتميّز وفنّان في كيل أصناف العذاب والقهر، فله من السياسة الممنهجة في إيلام المعتقلين "حدّث ولا حرج"، هناك أمور لم يسبقه إليها أحد، فمثلًا إن يطلق سراح نائل بناء على اتفاقية تبادل ثم يعاد اعتقاله ليعرض على محاكمهم مرارًا وتكرارًا ولتكون النتيجة إعادة حكمه بكل صلف وضرب بجميع قوانين الأرض عرض الحائط، أن يقمع السجن بعقوبات جماعية قاسية نتيجة لتجاوز ما من أحد الأسرى، عقوبات جماعية تضرب بسياطها ظهور الأسرى جميعًا.
ثلاث وأربعون سنة من الصعب تغطية واحد في المائة من معاناتها في مقال، كل يوم منها بحاجة إلى مقال، ولكن ما أريد أن أصل إليه ما سبل الخلاص وتحرير هؤلاء الذين صمدوا كلّ هذا الصمود الأسطوري؟ إلى متى ننتظر؟ الآن نائل على مشارف السبعينيات من عمره، أعلم أن هناك من لا يقصّر أبدًا وعلى استعداد تام لعمل المستحيل، ولكن هل بذلنا كلّ ما بوسعنا أمام هذا الجرح النازف؟ لا بدّ من التوقّف طويلًا، لا بدّ من العمل بقوّة دون أي تأخير، جميع السبل ممكنة، والكل يعرف هذه السبل.