في الوقت الذي تنهمك فيه دول عربية كانت حتى عهد قريب تقيم علاقات "جيدة" مع حركة حماس، وتدعم القضية الفلسطينية "بشكل أو بآخر" في انتقاد الحركة وتصنيفها ووضعها على قوائم "الإرهاب" إرضاء للسيد الأمريكي، منقلبة على المزاج العربي الشعبي العام؛ يدرك الاحتلال مما عايشه من حروب خمسة مع حركة حماس والشعب الفلسطيني في قطاع غزة أن قضية "اجتثاث" الحركة أو القضاء عليها أمر يكاد يكون مستحيلًا.
«رفائيل كوهين» ضابط سابق في الجيش الأمريكي، وعالم سياسي في مؤسسة «راند» غير الربحية وغير الحزبية، فضلًا عن أنه المؤلف الرئيس لكتاب «من الرصاص المصبوب إلى الجرف الصامد: دروس من الحروب الإسرائيلية في غزة»؛ أكد في تقرير جديد له أن كيان الاحتلال يواجه معضلة إستراتيجيةً فريدةً منذ أن تسلمت حركة حماس قطاع غزة في عام 2007م، فانخرطت كل من حماس وكيان الاحتلال في أعمال حربية مستمرة على هذا الشريط الضيق على طول البحر الأبيض المتوسط، إلا أن هذه الأعمال الحربية المنخفضة الوتيرة قد تصاعدت إلى حرب شاملة ثلاث مرات: عملية «الرصاص المصبوب» عام 2009م، و«عمود الدفاع» عام 2012م، و«الجرف الصامد» عام 2014م، حسب التسمية الإسرائيلية.
وإن كيان الاحتلال قادر _بحسب تحليله_ على استبعاد حماس، لكنه لا يمكنه ببساطة التخلص منها، ويرجع ذلك إلى سببين: الأول أنه لا يريد أن يحكم غزة بنفسه، والثاني أنه يخشى ما يمكن أن يحدث بعد ذلك، وعلى هذا يصبح التحدي الإستراتيجي كيفية ردع حركة حماس، لكن مع الإبقاء على سيطرتها على قطاع غزة.
التحديات التي يواجهها كيان الاحتلال في غزة قد تضاعفت بسبب عاملين إضافيين؛ ففي حين يعد كيان الاحتلال والولايات المتحدة وغيرها من الدول حماس "منظمةً إرهابيةً" تحكم حماس غزة، ما يجعل حماس طرفًا فاعلًا كلاسيكيًّا هجينًا ذا قدرات تتجاوز قدرة غيرها من الجماعات. علاوة على ذلك تعد غزة واحدة من أكثر المناطق اكتظاظًا بالسكان في العالم، ما يجبر قوات الاحتلال على التحرك ضد خصم متأصل في السكان المدنيين بالقطاع.
يرى الكاتب أن عمليات الجيش الإسرائيلي في غزة تقدم مثالًا على التحديات التي تواجه الجيوش المتقدمة عند مواجهة الخصوم الهجينة التي لديها إصرار وقابلية للتكيف والموجودة في المناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية، وعلى وجه الخصوص إن المواجهة الأخيرة، في عملية «الجرف الصامد» التي استمرت 51 يومًا تعلم الاحتلال منها خمسة دروس قابلة للتطبيق، حتى خارج قطاع غزة.
يذكر «رافائيل» أنه في أوائل عام 2010م سقط الاحتلال ضحية لما أسماه «إليوت كوهين» «سحر القوة الجوية»، مستخلصًا ذلك الدرس من التجربة الأمريكية في عملية عاصفة الصحراء عام 1994م، يقول «كوهين»: "إن توخي الدقة في استخدام القوة الجوية قد يوفر حلًّا إستراتيجيًّا شاملًا، ما يوفر لصانعي السياسات القدرة على تحقيق أهداف إستراتيجية دون تكبد تكلفة الدماء والمال"، لكنه يرى أن ذلك ليس إلا وهمًا، وأن تأثير القوة الجوية في الواقع محدود، إضافة إلى أن الغارات الجوية لا يمكنها أن تمحي «فوضى الحروب ووحشيتها المتأصلة".
في عام 2014م حطمت عملية «الجرف الصامد» وهم جبروت القوة الجوية، خلال المرحلة الأولى من العملية التي استمرت من 8 إلى 16 يوليو (تموز) حاولت القوات الجوية الإسرائيلية إعادة تطبيق الدليل الخاص بعملية «عمود الدفاع»، وشنت ما يقرب من 1700 ضربة جوية، لكن فشلت القوة الجوية وحدها في إنهاء التهديد الصاروخي من غزة، فضلًا عن أنها أخفقت في التصدي لتكتيك حماس الجديد المتمثل في الأنفاق التي حُفِرت تحت البلدات "الحدودية" في أراضي الـ48، إذ لم تتمكن أجهزة الكشف في الطائرات من تحديد أماكن الأنفاق تحت الأرض أو فتحاتها، وفي نهاية المطاف فشلت القوات الجوية في إنهاء الصراع.
يقول «رافائيل»: «في معظم الحالات أبقى جيش الدفاع الإسرائيلي اعتداءاته محدودة قدر الإمكان»، لكنه لم يتمكن أبدًا من تجنب إحداث الدمار، ربما كانت معركة الشجاعية أفضل مثال على تلك الحقيقة البدهية، كانت الشجاعية في مدينة غزة منطقة مكتظة بالسكان، فضلًا عن كونها معقل حركة حماس، وبعد ثلاثة أيام من إسقاط النشرات التحذيرية للمدنيين من عملية عسكرية وشيكة شن جيش الاحتلال عملية عسكرية في ليلة الـ19 من يوليو (تموز) بهدف تدمير ستة أنفاق حدودية.
وبعد انهيار مدرعة حاملة جنود نَصَبَ مقاتلو حماس كمينًا لحافلة، ما تسبب في مصرع سبعة من ركابها، وقد واجهت محاولات الاحتلال للوصول إلى الحافلة مقاومةً شديدةً، وتفاقمت الإصابات وانهار الوضع. أصيب قائد لواء العملية وتطلب الوضع إجلاءه، ثم ردت قوات الجيش الإسرائيلي مستخدمة قوة نارية مكثفة، إذ أطلقت على الأقل 600 طلقة مدفعية، وأسقطت ما لا يقل عن 100 قنبلة تزن طنًّا، وذلك لإحباط مقاتلي حماس، وفي النهاية أدت المعركة إلى مقتل ما لا يقل عن 13 جنديًّا إسرائيليًّا، و65 مجندًا ومدنيًّا فلسطينيًّا، فضلًا عن إصابة المئات بجروح.
إذا كانت القوة الجوية غير فعَّالة، والعمليات البرية دموية، وعلى الأرجح ينتهي بها المطاف في قاعات المحاكم؛ فهل تستطيع الجيوش ببساطة تحييد التهديدات المنبعثة من المناطق الحضرية، أو تجنب المعركة الحضرية تمامًا؟، إلى حد ما جرب الاحتلال ذلك المنهج، سمح تطوير نظام الدفاع الصاروخي المعروف بالقبة الحديدية أن يخفف من وطأة الصواريخ المنطلقة من غزة، بحسب رأي محللين إسرائيليين، القبة الحديدية نظام دفاع جوي بالصواريخ ذات القواعد المتحركة، طورته شركة رافائيل لأنظمة الدفاع المتقدمة، والهدف منه هو اعتراض الصواريخ القصيرة المدى والقذائف المدفعية، إلا أن هذا المنهج لم يتجاوز تلك المرحلة.
فالهجمات الصاروخية التي شنتها حركة حماس لا تزال تجبر الإسرائيليين على اللجوء إلى الملاجئ وتعطيل الحياة اليومية، وإن حيدت من طريق القبة الحديدية، علاوة على ذلك لم تفعل القبة الحديدية شيئًا لحماية الإسرائيليين من تهديدات حماس الأخرى، مثل هجمات الأنفاق.
بعد عقود من العمليات العسكرية ضد غزة تعلم الجيش الإسرائيلي العديد من الدروس بشأن الحرب الحضرية ضد الخصوم الهجينة، لكن على الأقل يظل هناك درس واحد مراوغ، وهو كيف تحول العمليات الناجحة إلى انتصار دائم؟، واقعيًّا وفَّرت حروب كيان الاحتلال المحدودة فترات من الهدوء النسبي له، لكنها ليست حلًّا دائمًا.
يبدو الاحتلال الإسرائيلي أكثر قدرة على فهم طبيعة المواجهة مع حركة حماس عسكريًّا وسياسيًّا من بعض الدول العربية التي تريد الانخراط في هذه المواجهة دونما أدنى معرفة أو خبرة، وعليه إذا كان "كيان الاحتلال" مقتنعًا باستحالة "اجتثاث" حماس والتخلص منها مع ما بذله في سبيل ذلك، فما جدوى الانضمام إلى المعسكر الخاسر دائمًا؟!