فلسطين أون لاين

انقضت الدقائق الـ15 ولم يعد لأمه

تقرير أحمد شحادة.. دعا الناس لـلاستيقاظ ورحل بلا عودة

...
الشهيد الفتى أحمد شحادة
نابلس-غزة/ يحيى اليعقوبي:

"مالك ليش سارح، وزعلان، وكئيب؟" يسأله صديقه وهو يصور مقطعًا مرئيًا له، لم يطل الفتى أحمد شحادة (16 عامًا) في إجابته وهو يجلس في بقالة والده، لم تخف نظارته الطبية الشفافة نظرات القهر المنبعثة من عينيه على حال الناس، بصوتٍ ممزوج بالأسى: "من الأمة، نفسي تصحصح، والله في آخرة، الواحد لازم يتوب لربه".

أحمد الذي دعا الناس إلى "الاستيقاظ من غفلتهم" نام هو على نعشٍ، كان رأسه يرتخي على كفن أبيض، تردد حناجرُ المشيعين الملتهبة: ""يا أم نهاد نيالك.. يا ريت أمي بدالك" وهي الكلمات ذاتها التي يرددونها في كل جنازة شهيد تزفه نابلس، لطالما خرجت نفس الكلمات من حنجرة أحمد الذي عايش كل شهداء البلدة القديمة أمثال إبراهيم النابلسي ومحمد العزيزي ووديع الحوح وتامر الكيلاني.

آخر اللحظات

في بيت العزاء كانت أمه تقص حكايتها، وهي تطل على آخر يوم جمعها به، في حين ترسم الدموع خطًا من الحزن على رحيل فلذة كبدها: "عاد للبيت السابعة مساءً أول من أمس وجلس معي، وعند الساعة العاشرة اتصل به صديقه وخرجا، فاستأذن للانصراف خارج المنزل".

لم تمضِ أكثر من خمس دقائق على خروج أحمد من البيت، حتى اتصلت به والدته مرةً أخرى كأن شيئا يقودها للاتصال، الذي تزامن مع اقتحام جيش الاحتلال مدينة نابلس، لكنه لم يرد على المكالمة الهاتفية الأولى، فأثار القلق غباره في قلبها، ولم تدرك أن عاصفة فقْد ستغير عليه وهي لم تستعد له فجرح قلبها، لم يُشفَ من وفاة شقيقه الأصغر منه قبل سبعة أشهر، كانت تريد إغلاق أبواب الفراق، تخشى أن تطاله رصاصة إسرائيلية.

تروي بصوتها المثقل بوجع الفقد: "بعد ربع ساعة رد على الهاتف وقالي لي: ربع ساعة سأعود إلى البيت، وأقفلت المكالمة، لكنني بقيتُ في خشية عليه فعاودت الاتصال مرةً أخرى أريد سماع صوته فقط، هذه المرة رد عليَّ صديقه، وقال لي: "نحن بمستشفى رفيديا"، لم أتحمل شعرت أنه استشهد رغم أن صديقه حاول إنكار ذلك، مدللاً بأنني كلمته قبل دقائقٍ، فطلبت أن يعطيني إياه، حينها أدركت أنه شهيد".

اخترقت قلب أحمد رصاصةً، أوقفت نبضاته، وحياته، وقبل أن تصل رصاصة القناص الإسرائيلي إليه، اخترق القلق قلب أمه التي شعرت أن شيئًا ما سيحدث، حاولت أن تعيد ابنها إلى البيت، لكن العيار الناري كان أسرع في الوصول إليه من تحذيراتها.

يبكي صوتها الذي لم يتوقف طيلة كلامها بعينيها المحمرتين اللتين لم تستطيعا حبس دموعهما لحظة واحدة: "ذهبت ورأيته مستشهدًا، احتضنته، رغم أنه قبل خروجه من البيت احتضنني وقبلني، هو بالعادة يكتفي بالقبلة لكني استغربت من عناقه لي، كان أحنّ واحد على إخوته، كنت أذهب وأجلس معه كثيرًا، لكن البيت الآن أصبح فارغًا لأن له شقيقا توفي قبل سبعة أشهر، كانا يعملان جوًا في البيت".

تعلن رضاها عنه بصبر: "الحمد لله.. الله يرضى عليه".

الابن المطيع

"أحمد حنون وطيب، وخيّر، كان يعمل مع والده في البقالة، في يوم استشهاده ذهب معي إلى السوق واشترينا أغراضًا، واجتمعنا على مائدة الغداء قبل أن يخرج للبيت" ترثي نجلها بذات الدموع التي تبلل صوتها.

لم يكن أحمد من الذين يتأخرون في تلبية مطالب والديهم، يحضر أمَّه شيءٌ مما كان يفعله: "لو كنت أطلب منه لبن العصفور، ربما كان سيأتي به من شدة طاعته لي، في يوم استشهاده مرضت وأعطاني والده مبلغا للدكتور، لكنه أعطاني ضعفه وقال لي: "ربما تحتاجين للمبلغ هذا"، وكانت هذه سياسته مع شقيقاته، يعطيهن أموالاً إضافية".

لطالما وُثقت صور لأحمد وهو يودع الشهداء، تتوارى دموعه خلف نظارته الطبية التي لم تحجب رؤية الآخرين لها، التقط صورا على قبر شهيد جنين الفتى الصغير الذي يشبهه في الشكل والحجم أمجد الفايد، كان صديق الشهيد غيث يامين الذي رسم مخاوفه بوصية تركها لأهله واستشهد نهاية مايو/ أيار الماضي، وطلب أن يدفن في مقبرة وحوله أطفال، فاستشهد أحمد بنفس الطريقة التي أعدم فيها الفايد ويامين.

جثت والدته، ولامست وجهه الساكن بلا حركة عندما جاء إليها، لا تصدق أنه رحل، تلقي نظرة الوداع الأخيرة عليه وتودعه شقيقاته والمقربات منه بعدها، ثم حمله المشيعون تعلو صيحاتهم بـ "لا إله إلا الله"، في حين أطلقت النسوة زغاريدهن، وبدأت الجنازة تبتعد شيئًا فشيئًا وأمه تراقب بدموعها من باب البيت.