هو حاوية لحمل البضائع ولكنه تحوَّل إلى مكان ينطلق منه الرعب وقتل الحياة الفلسطينية وقطع الطريق، أصبحت كلمة "كونتينر" مرعبة، فعندما يقولون إننا في سفرنا نحو الجنوب بيت لحم والخليل نمرّ بطريق "الكونتينر"، يعني أن هناك من بإمكانه انطلاقًا من هذا "الكونتينر" الصغير أن يوقف حركة السير من شمال الضفة إلى جنوبها وبالعكس، بإمكانه شلّ حركة آلاف السيارات المحمّلة بالمسافرين والبضائع، ما عليه إلا أن يضيء الضوء الأحمر أو ينزل قاطعًا حديديًّا ثم يلوي إلى شاشته الصغيرة ليتابع التيك توك أو يفتح على فيلم طويل من اليوتيوب منتظرًا بفارغ المتعة والاستجمام الأوامر العليا ليفتح الطريق أو يبقيها مغلقة إلى إشعار آخر ولا يهمّه هو ومن يقرّر له الحالات الإنسانية وسيارات الإسعاف وطفر الناس وغليان الدماء في عروقهم، يستمتعون بآلام الفلسطينيين ويلعبون بأعصابهم، حتى وكونتينرهم فاتح إلا أن الهلع يملأ قلوب الناس خشية إغلاقه وقطع الطريق، ومن ثم فساد ذاك اليوم.
والكونتينر وسيلة لنقل البضائع المستوردة للسوق الفلسطينية، ومن المعروف أن المحتلّ متحكم كاملًا في حركة الاستيراد والتصدير، فإذا أوقف "الكونتينر" في الميناء فإنه يخنق الاقتصاد الفلسطيني ويضربه الضربة القاضية، وبهذا فإن المواطن الفلسطيني يكتشف أن اقتصاده مرهون بهذه الكلمة الفظيعة: "كونتينر"، هي صاحبة الفضيلة إذا تيسّر أمرها، وهي في الوقت ذاته صاحبة النقمة والقطيعة والتصحّر الاقتصادي إن أراد لها الاحتلال شرًّا.
القرى الفلسطينية تُحكم ببوابات تغلق وتفتح حيث ما شاء المحتلّ بمزاجه الأرعن الحاقد، فجأة يأتي مجموعة صبية من صبية التلال بحماية الجيش العتيد، "يتحركشون" بالحياة الفلسطينية وكأن التنكيد على الفلسطيني عبادة يتقرّبون بها إلى معبودهم، تغلق البوابة لأتفه الأسباب وتتحوّل القرية إلى "كونتينر".
حتى إنّ المدن وحصر مساحاتها فيما يسمّى منطقة (أ) ومنع التوسّع الطبيعي المتناسب مع حالة الازدياد السكانية الطبيعية حوّل هذه المدن إلى "كونتينر"، اختناقات مرورية فظيعة وكأنها قد تحوّلت إلى مستودعات سيارات، كل شيء متكدّس في المدن: الأشياء والأسواق والأبنية الرأسية والناس وكأنّ يدًا خفيّة ترتّب هذا التكاثر في كلّ شيء كما ترتّب البضائع في الكونتينر ليتسع لأكبر كمية ممكنة، هكذا مدننا أصبحت: "كونتينر".
المياه الفلسطينية شفطوها بالكامل ثم ثبتوا حصة لنا منذ سنة 1967 بقيت كما هي حتى اليوم، طارت بحيرة الحولة وحوّلوا مياه طبريا إلى النقب وخربوا مياه غزة قبل أن ينسحبوا من هناك ومياه الضفة بالكامل تحت أيديهم حتى إن 67% من مياه الشرب لتل أبيب تسحب من مخزون الضفة الغربية، المستوطن يستهلك عشرين ضعفًا مما يستهلكه الفلسطيني، تموت الخليل عطشًا والمستوطنون ينعمون ببرك السباحة وريّ الحدائق في كريات أربع، مياهنا ضاعت من خلال محابس داخل كونتينر يتحكمون فيها بكل قدراتهم على الجشع وشرب مياه الفلسطيني بالباطل.
العمل السياسي وصل إلى أفق مسدود، وهذه كلمة أفق كان فيها غشّ كبير لأن الأفق والآفاق تكون رحبة وواسعة، أما مع هذا الاحتلال فتتحوّل إلى "كونتينر". كان عليهم بدل القول الأفق السياسي أن يكونوا موضوعيين ويقولوا لنا "الكونتينر السياسي" خاصة من فاوضهم وعرفهم من قرب، وكلنا اليوم نعرفهم من قرب.
ثم يقولون إن حكومة متطرفة جدًّا أكثر من التي سبقتها ستضيق معها الحياة الفلسطينية أكثر فأكثر، ماذا يوجد لهم بعد حياة الكونتينر التي أضحى بها الفلسطينيون ينعمون؟