بادرت مجموعة فلسطينية لإطلاق حملة شعبية بعنوان «إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية» بإجراء انتخابات ديمقراطية بين أبناء الشعب الفلسطيني في أماكن وجودهم كافة، بعد أن أيقنت هذه المجموعة، أن المنظمة تمّ تحجيمها لدرجة أن أصدر (رئيس السلطة محمود عباس) أبو مازن قراراً بإلحاقها كدائرة من دوائر السلطة الفلسطينية، التي هي بدورها دائرة من دوائر سلطة الاحتلال. وبتاريخ 5 تشرين الثاني/ نوفمبر، أي قبل أيام، أطلقت المجموعة مبادرتها داخل فلسطين وخارجها.
بادرت أجهزة السلطة الأمنية إلى اعتقال المناضل عمر عساف، باعتباره أحد رموز هذه الحملة، كما بادرت أقلام تابعة للسلطة، وصدرت تصريحات رسمية من كبار مسؤولي السلطة الفلسطينية تندد بالمبادرة وتتهمها أنها تلتف على المنظمة، دون أن تبين كيف يتم الالتفاف، وأنها تسعى لخلق منظمة بديلة، في حين هي تعلن أن هدفها انتخاب مجلس وطني جديد كخطوة لإعادة بناء المنظمة. وبغض النظر عن الكلمات غير اللائقة، إلا أن واجب الوفاء يقتضي التوضيح للرأي العام الفلسطيني -على نحو خاص- وللرأي العام العربي على نحو عام، أن المجموعة التي تتصدى لهذا العمل هي مجموعة تدعي الغيرة الوطنية على المشروع الوطني الفلسطيني، وهذا ليس استثناءً، ففي جميع الساحات أينما وجدت فيها مجموعات فلسطينية تجد حراكاً فلسطينياً، وهذا نشاهده من الكويت إلى عمان إلى كوبنهاغن وبروكسل وولاية كنتاكي الأمريكية إلى سان باولو في البرازيل وتشيلي، وجميعها أنشطة ترتكز على مبادرات خاصة، وهذا يدلل على نحو قاطع على أن النشاط الفلسطيني هو مظهر من مظاهر الغيرة الوطنية على المشروع الوطني. ولا يدّعي أحد أن أهلنا في لندن أو ميلانو أو بيروت أو البكركي هم «مندسون» أو متآمرون على منظمة التحرير أو قيادتها.
إن ردة فعل بعض الأجهزة والأقلام الرسمية وشبه الرسمية على تحرّك الحملة، لا يجد تبريراً منطقياً، وكان الأولى بهذه الأجهزة أن تبارك هذا النشاط، باعتبار أنه يصب في المصلحة الوطنية، ولا سيما أن وفود الفصائل الفلسطينية غادرت الجزائر للتو، وهي تحمل وثيقة معطرة بدماء شهدائنا في الجزائر، والبند (5) فيها ينص على أن «يتم انتخاب المجلس الوطني في الداخل والخارج». ومن الواضح أن المؤتمر الشعبي، جاء منسجماً مع إعلان الجزائر، إلا إذا كان بعض المؤتمرين في الجزائر غير جادّين في إجراء الانتخابات.
أدركت الغالبية العظمى من الفلسطينيين أن القضية الوطنية اصطدمت بحائط الاحتلال الإسرائيلي، الذي ثبت على وجه اليقين أن عصابة (تل أبيب) لا تريد التخلّي عن الأراضي المحتلة، وقد أكدت هذه الحقيقة المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، في تقريرها المقدم للجمعية العامة والمعلن عنه هذا الشهر، وقد وثّقت مقولتها بما ورد على لسان مناحيم بيغن وما ورد في خطة يغال آلون وخطة دروبلس، بالإضافة إلى سلوكها في إقامة المستعمرات. ألم يحن الوقت للقيادة الفلسطينية القائمة حالياً، بإعادة النظر في سياساتها التي التزمت بها في اتفاقيات أوسلو؟ من الواضح أن "أبا مازن" يتمسك بالتنسيق الأمني ويعتبره مقدساً ويواصل سياسته التفاوضية، ولو أنها مفاوضات أشبه ما تكون بقصة «إبريق الزيت»، ألا يحق لفلسطينيين آخرين أن يطالبوا بتغيير هذه القيادة، حسب الأعراف الديمقراطية كمقدمة لتغيير سياستها؟ لقد غيرت بريطانيا رئيس وزرائها مرتين في أقل من شهرين، لسوء خطته وسياسته، وغيّرت (إسرائيل) حكومتها مرتين في حوالي ثلاث سنوات.
لقد تابعت خطاب محمود عباس الأخير في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو خطاب ليس فيه سوى «اللطم»، ولم يكن ذلك لائقاً بفلسطين ولا بالقيادة الفلسطينية، ولكنه كان دليلاً على أن القيادة فقدت البدائل وفقدت الدليل، وعلينا أن نعترف بذلك. فإذا كانت القيادة قد فقدت الدليل والبوصلة، ألا يحق لشعبنا أن يطالب بانتخابات جديدة لإفراز قيادة جديدة وبطرق ديمقراطية لوضع سياسة جديدة؟ إن تداول السلطة أمر مشروع في أي مجتمع يتمتع بالحيوية، ولا توجد هناك قيادة أبديّة، حتى أن سيدنا محمدًا قد رحل، وهو رسول الله الأخير، وبدلاً من عقد اجتماع في السقيفة، على الفلسطينيين انتخاب قيادة انتخاباً حرّاً وديمقراطياً، وإذا نجحت القيادة الحالية، فلا بأس في احترام خيار الديمقراطية. إن القرار الأخير لمحمود عباس أن يكون رئيساً للسلطة القضائية هو عنوان جديد للاستبداد، وتحضرني هنا قصة لواحد من أعتى طغاة القرن العشرين وهو الجنرال فرانكو، وقد شهدت إسبانيا في زمنه أظلم مراحل تاريخها وأشدّها استبداداً، ويروي السيد طاهر المصري في مذكراته «الحقيقة بيضاء»، وكان سفيراً للأردن في إسبانيا، أنه لاحظ أن فرانكو الذي وإن حكم بيد من حديد، «لكنه ونظراً إلى بعد نظره، قرر أن يعيد الملكية إلى إسبانيا بعد وفاته، ورتب أمور الدولة، فاختار خوان كارلوس ليستلم البلاد بعده». أليس حريّاً بمحمود عباس، أن يهيئ لانتقال السلطة بسلاسة، وذلك بعقد انتخابات ديمقراطية لمجلس وطني فلسطيني يعيد فيه إلى الشعب الفلسطيني لحمته الوطنية، بعد أن مزّقت أوسلو كيانه؛ وهي التي فصلت فلسطينيي الداخل عن الخارج ومزّقت فلسطينيي الداخل الى فلسطينيي فلسطين، وفلسطينيي المناطق أ، ب، ج، وفلسطينيي القدس، وآخرهم فلسطينيو غزه؟ حتى الجنرال فرانكو، وهو أشدّ الطغاة استبداداً، انحاز إلى القضية الوطنية في آخر المطاف، وهيأ لوطنه قيادة تحمي وحدة شعبه وتصونه من التفتت والتناحر. ونأمل أن تنحاز القيادة الفلسطينية إلى شعبها بدلاً من مناشدة رؤساء الاستكبار والاستعمار.
إن المؤتمر الشعبي، وكما يدل على ذلك اسمه، هو نشاط شعبي يحمل همّاً وطنياً ولا غبار عليه في ذلك، ولا غبار على أي تحرك شعبي يحمل الهم الوطني. وإننا نشاهد المئات من أهلنا في داخل الوطن وخارجه، كل بطريقته يحمل صليبه، من دون كلل، ومن دون انتظار لأجر أو جائزة من أحد، ولا أجد مبرراً رشيداً لأي محاولة لإحباط أي مسعى شعبي يحمل همّ القضية الوطنية أو مهاجمته، أو التطاول عليه. وهناك من يجدون هفوة هنا أو ذريعة هناك لإحباط هذا المسعى وتجريمه، وهذا ـ في ظني- عمل فيه تمجيد لفشل الذات أو تغطية لقصورها.