فلسطين أون لاين

تقرير محمد الجعبري.. "المُعلّم المقاوم" ختم درسه الأخير بالدم

...
الشهيد محمد الجعبري- أرشيف
الخليل- غزة/ يحيى اليعقوبي:

مريض سرطان نهش جسده، ومنعه حتى من الوقوف كثيرًا على قدميه أو المشي طويلًا، وغيّبه في الآونة الأخيرة عن طلابه في المدرسة، اعتقد الجميع أنه منشغلٌ في محاربة المرض "الخبيث" وأنه يعدُّ أيامه الأخيرة، صارحه الأطباء أنّ خيارات العلاج محدودة في فلسطين، لكن كان هناك ما هو أخبث من المرض وعدو آخر يشغل بال "المعلم المقاوم" محمد كامل الجعبري (34 عامًا)، ويَعدُّ له المعركة الأخيرة.

يرتدي عباءة واسعة لتمويه بندقية أخفاها تحتها، كانت واسعة لحمل همّ الوطن، ونقل المعركة لجنوب الضفة، ليُبدّد أوهام الاحتلال بالهدوء.

اقرأ أيضًا: تقرير في "كريات أربع".. الشهيد محمد الجعبري ينتقم من غُلاة المستوطنين

حمل المدرس بندقية بدلًا من "الطبشورة"، لم يقف أمام الطلاب هذه المرة، الجميع شاهده يرتدي العباءة، ويطلق النار على المستوطنين وجنود الاحتلال، بثبات وهدوء، وصلابة وشجاعة كبيرة، ينهي الدرس الأخير بدمه، في عمليةٍ بطولية بمستوطنة "كريات أربع" أسفرت عن مقتل مستوطن وإصابة اثنين آخرين بينهما "عوفر أوحانا" أحد أشدّ المستوطنين تطرفًا.

لم يبعد منزل الجعبري الذي يسكن بمنطقة "بيت عينيون" سوى عشرات الأمتار عن المستوطنة المُقامة على أراضي المواطنين في الجهة الشمالية الشرقية لوسط الخليل، فعايش من كثب معاناة المواطنين نتيجة اعتداءات المستوطنين وهجومهم المستمر على الناس، لم يمنعه مرض السرطان من الثأر.

يعمل الجعبري مُدرسًا للتربية الإسلامية في مدرسة جواد الهشلمون الأساسية، وأبٌ لطفلين هما عبد الرحمن وسارة، وهو شقيق وائل الجعبري المحرر في صفقة "تبادل الأحرار" في أكتوبر/تشرين الأول 2011 وقد أُبعد إلى قطاع غزة.

وداع صامت

صاحب الملامح الهادئة، والوجه البشوش، لم يعرف حتى أقرب المقربين إليه ماذا يدور في داخله، لم يكن شقيقه ياسر يدرك أنّ خلف تلك الملامح مقاتلًا شرسًا سيظهر، لم يبدِ أيّ علامات رحيل ووداع، فأتمّ خططه بصمت تام ومضت حياته عادية، يقول شقيقه لصحيفة "فلسطين": "رأيت الفيديو كما رآه الناس، وسمعت عن العملية كما سمع الجميع عنها، لم يظهر عليه أيّ شيء بعيدًا عن حياته الطبيعية في الآونة الأخيرة".

أخبره الأطباء في فلسطين بمحدودية خيارات الدواء والشفاء نظرًا لانتشار المرض في جسده خاصة معدته وقدميه، لكنّ عائلته لم تعدم الأمل ومحمد لم يستسلم للمرض، لم يغِب شقيقه عن هذه المرحلة: "أُصيب أخي بمرض سرطان القولون منذ أكثر من عام وكان ينتظم في العلاج، لكنه وصل لمرحلة أن أصبح وضعه صعبًا، فأجرينا له فحوصات بأمريكا ظهرت نتائجها قبل تنفيذه العملية، اشترينا الدواء وهو مُكلّف وصعب أن تجده في فلسطين، وأحضرنا كمية تكفيه لأربعين يومًا متواصلًا، انتظم على تناوله لأربعة أيام فقط ثم نفّذ العملية الفدائية".

أثّر المرض الذي انتشر بجسمه ونزل على قدميه على قدرته على المشي، يُقرُّ شقيقه بأنه كان يجد صعوبة بالمشي أحيانًا.

شقيقه وائل المبعد إلى غزة الذي استقبل الشهيد عام 2011 في زيارة يتيمة تعانق فيها الشقيقان بعد سنوات فصلهما السجن عن بعضهما، لم يُخفِ تفاجؤه بالعملية، يقول في "عرس الشهادة" الذي أقامه لشقيقه في منزل قائد المقاومة الشهيد أحمد الجعبري بحيّ الشجاعية: "سمعت عن عملية بطولية بمدينة الخليل، ثم تبيَّن المُنفّذ أنه من عائلة الجعبري، فظهر اسم أخي محمد".

بملامح صابرة محتسبة، يرثي شقيقه: "هو شابٌ مجاهد مربٍّ يحب المقاومة والشعب الفلسطيني وكانت عمليته نوعية جاءت بعد مدة طويلة من انقطاع العمل المقاوم في الخليل، وكان لا بد من ردٍّ لتخفيف الضغط عن المناطق الأخرى، نفتخر به وعمليته ترفع الرأس".

لم يخبر الجميع بما ينوي فعله، لكنه كتب منشورًا في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2022، على صفحته على "فيسبوك" يدرك أنّ الجميع سيُفسّر الهدف منه بعد استشهاده: "قال الرسول صلى الله عليه وسلم: للشهيدِ عندَ اللهِ ستُّ خصالٍ: يُغفرُ لهُ في أولِ دفعةٍ، ويَرى مقعدَهُ منَ الجنةِ، ويُجارُ منْ عذابِ القبرِ، ويأمنُ منَ الفزعِ الأكبرِ، ويُوضعُ على رأسِهِ تاجُ الوقارِ، الياقوتةُ منها خيرٌ منَ الدنيا وما فيها، ويُزوَّجُ اثنتينِ وسبعينَ زوجةً من الحورِ العينِ، ويُشفَّعُ في سبعينَ منْ أقاربِهِ".

المعلم الملهم

"اللهم أحيِنا سعداء وأخرجنا من هذه الدنيا شهداء" بهذا الدعاء كان يبدأ "المعلم المشتبك" حصته الدراسية في المدرسة، كان نموذجًا مُلهمًا للطلاب، ولزملائه المدرسين، المدرس سالم الحموري بمدرسة جواد الهشلمون الابتدائية والإعدادية للبنين كان شاهدًا على تفاني الشهيد الجعبري طيلة خمس سنوات عمل بها في المدرسة، وسبقها خمس سنوات أخرى عمل في مدرسة "النهضة" الأساسية.

عرّف الحموري عن زميله الشهيد، أنه متواضع منضبط، هدفه الأساسي إيصال المعلومات للطلاب بأسلوب أخلاقي، بحيث ينعكس التعليم على سلوك الطلاب.

ورغم أنّ في المدرسة خمس شاشات عرض مثبتة لإثراء المنهاج، فإنّ الجعبري اشترى شاشة متنقلة على نفقته الخاصة بحجم "32 بوصة"، يقول الحموري: "أسلوبه مميز، كان قريبًا من قلوب الطلاب لذلك تأثروا برحيله واستشهاده، كنت أراه يحمل شاشة العرض للحصص الصفّية ويعرض عليها أفلامًا وثائقية أو آيات قرآنية ودروسًا تعليمية مرئية، يدرك أهمية المؤثرات الصوتية والمرئية في زيادة فهم الطلاب لموضوع الدرس".

لم يحمل الجعبري العصا في يوم من الأيام ولم يعاقب الطلاب، كان يفرض احترامه على الطلاب بحضوره وشخصيته وأسلوبه، يدخلك الحموري في قلب المشهد الدراسي قائلًا: "في حصته، لا تسمع صوت ضجيج، الطلاب يجلسون بهدوء، يستعمون إليه ويستمتعون بحصته، في الوقت نفسه تحامل على مرضه فلم يفرض أن هناك مرضًا، هو إنسان إيمانه قوي إلا أنه في الآونة الأخيرة انقطع عن التدريس بسبب تعبه الشديد من المرض".

قبل عشرة أيام من تنفيذه عملية إطلاق النار الفدائية، دعت الهيئة التدريسية بالمدرسة الجعبري على مائدة طعام، وكانت آخر مرة يرى فيها الحموري زميله، يستحضر تفاصيل اللقاء الأخير: "قدمت له تقرير التقييم السنوي الخاص به، لكنه أشار لي بتركه جانبًا، لم يكن مهتمًّا به، شعرت أنه يُودّعنا، لكنّ تفكيري ذهب للمرض خاصة أنه تعب من الجرعات الكيماوية".

كلُّ المقربين من المعلم الجعبري توقّعوا أن يتوفى بمعركته مع المرض، فكان مفاجئًا للجميع أن يستشهد بساحة المعركة وهو يُطلقُ النار على المستوطنين، حتى زميله المدرس، يُقر: "فعلًا فوجئت بتنفيذه العملية، خاصة أنه لم يذكر في حياته شيئًا عن ذلك".

في عائلته لم يغِب الجعبري عن مناسباتها الاجتماعية، كان دائم الحضور في الأفراح ويُشاطرهم في الأحزان، عمه الشيخ حجازي الجعبري يُشيد في حديثه لصحيفة "فلسطين" به: "كان طيبًا، الجميع يحبه، حفظ القرآن الكريم، كنت أراه دائم التزام الصلاة في المسجد، وتفاعله مع العائلة، يحب الخير للناس، ولم يكن شهيد العائلة فقط بل شهيد الشعب الفلسطيني".

لم تنجح عدة وساطات وجهود عشائرية ورسمية من فلسطين وخارجها في إنهاء خلاف بين عائلتَي الجعبري والعويوي، لكنّ مشهد توجُّه أبناء العويوي لتعزية آل الجعبري باستشهاد محمد، يُعطي أملًا أن يُحلَّ الخلاف من جذوره، ويُوحّد دم الشهيد العائلتين اللّتين تجمعهما روابط عائلية ومصاهرة ونسب، يُتمّم عمه: "نحن عائلة واحدة، دائمًا نشارك بعضنا المناسبات، ونتمنَّى أن تزيد دماء محمد الودَّ والعلاقات الطيبة وتُوحّدنا".