في مقالات سابقة فصلت بين حالتين من المقاومة الفلسطينية، واحدة في غزة وأخرى ينبغي أن تكون بباقي فلسطين المحتلة. وقلت إن مقاومة غزة هي أقرب ما يكون للدولة أو السلطة بحكم ظروفها التي تقتضي أن تكون حكومة للساكنين بغزة ترعى شؤونهم المدنية وأن تكون مقاومة تحافظ وفي هذا تنافس بين واقعين، واحد يحمل عبء البناء المؤسسي للدولة الذي لا يحتمل التخريب والتدمير بين فترة وفترة، وآخر يسعى، بالتزامن، مع ترسيخ حق المقاومة ضد عدوّ يستهدف بنية غزة. يدرك العدو حيرة غزة فيطيح بمؤسساتها المدنية مثل الأبراج السكنية التي لا تقدر غزة المقاومة الدولة أن تعيد بناءها بحسب ما تقتضيه مسؤولية الدولة.
ويأمل العدو بتنامي سخط مدني لتصبح مقاومة غزة رهينة بين عدوّ يقتنص فرصة إيذاء بنية غزة ومواطن يشاهد جنى عمره يتهاوى ويريد الأمان والاستقرار كما باقي الشعوب. وهذا هو الاستخدام القذر في السياسة والحروب للمدنيين فتحاصرهم وتعتدي عليهم أملا أن يثوروا على حكومتهم. يختلف الوضع مع الفلسطينيين، وعموم العرب، الذين لا يرون إلا عدوا واحدا وهو الصهيونية وما تمثلها. وهذا ما يجعلهم صابرين على الشقاء والاعتداء.
الحالة الثانية هي المقاومة بباقي فلسطين مما نراه من استهداف العدو بما تستطيعه المجموعات المقاومة بوسائل محدودة لكنها مؤلمة لعدوّ لا يريد أن يخسر أرواحا أو أن يبدو أنه يفقد السيطرة على الحواجز ودواخل المدن. تختلف الآراء حول المقاومة. هناك من يقول إنها تتكون من شباب لا يملك مؤسسية المقاومة بقدر ما يملك الشجاعة المتهورة، وأنها محصورة في الأزقة ومحدودة بالتسليح والذخيرة، وبالتالي، لن تؤدي مقاومتها لنتيجة غير تثقيل قبضة العدو الضاربة على الفلسطينيين. ولأنها كما يتداول الناقدون قاصرة في قدرة التخطيط المقاوم المؤسسي لأن ما تفعله لا يعدو كونه فورة شباب فهي لا تحمل الجدية أو الاستمرارية. وأنها لن تلبث أن تهدأ خاصة وهي تضرب من عدو متمكن، وإلى حدّ ما من السلطة الفلسطينية التي تريد التهدئة وإبقاء خططها للسلام حية رغم وضوح اشتراك أفراد من قواتها في التصدي للعدو الهائج وهو ما يجعلها أكثر حرصا ألّا تتطور الاشتباكات. وكذلك فأن دعم هذه المقاومة لم يكتسب للآن تعاطفا فلسطينيا فعليا واسعا. صحيح أنها تثير إعجاب الفلسطينيين وبعضهم يضرب عن العمل ويتظاهر لكنها لا تستثير في الأغلبية منهم نزعة المقاومة الواسعة. بل يبدو الفلسطينيون مهتمون بممارسة حياتهم الطبيعية أكثر من تبنيهم للمقاومة وهو ليس فعلا يلامون عليه فالكل يريد في النهاية أن يعيش لكنه وضع يقول إنها مقاومة تقف لوحدها دون سند فعلى كاف من المدن الفلسطينية باستثناء العاطفة. كما أن ما يتداول عن دور المؤسسات الأمنية الفلسطينية في التضييق وتبادل المعلومات لا يساعد هذه المقاومة، فالفلسطيني الذي يريد دعم المقاومة لا يريد أن يجد نفسه مطاردا من العدو وسلطته التي لا تتفق والخط المقاوم. ومن السلبيات أنه إن توصلت هذه المقاومة للسلاح فكونها محاصرة يجعل من حيازتها المتجددة للسلاح مسألة فيها صعوبة في ظل رقابة العدو متعددة الوسائل البشرية والتقنية. فالمقاومة بهذا الشكل تبدو جزيرة في بحر غير متصل بخطوط إمداد واضحة. على الرغم من ذلك فالمقاومة هذه هي، مبدئيا ونتيجة، ما يجب أن يكون. وهي لكي تنتصر عليها أن تعالج السلبيات التي تحيطها. هكذا فعلت المقاومة ضد الاحتلال في كل بقاع العالم.
عودة للمقاربة، يتعادل عبئ “السلطة” المقاومة في غزة مع قرينه المقاوم في فلسطين حيث المقاومة تحمل أعباء ديمومتها بمواجهة السلبيات الداخلية والعدو المترصد لها. وقد تحول الجغرافيا بين اتحادهما العملي في المقاومة المشتركة لكن حظوظ الانتصار المتدرج تتعاظم رغم الأعباء، والرهان والخطر أعلى على مقاومة الداخل فهي التي تؤلم العدو أكثر. لكنهما معا محاطتان وهذه معضلة مصيرية تتصارع فيها مصالح التحرير عبر السلام ورغبات التحرير عبر المقاومة المسلحة والغلبة لليوم هي للسلام، ولو كان ضعيف الحجة ومتسالما مع صفعات الصهيونية، وليس أقلّها هجمات الاستيلاء على الأقصى. عليه، تبقى المقاومة مستنزفة من عدوّ لا يرحم ومجتمع فلسطيني وعربي لا يستطيع الدعم ومجتمع دوليّ لا يأبه. وتبقى تزداد الأرواح الشهيدة كما حصل ليلة البارحة في نابلس.
نعم، تعود الروح لفلسطين بالمقاومة بما يستطيع المقاوم من أدوات وهي المقاومة التي لم تتوقف منذ نهاية القرن التاسع عشر مما يعني أنها مقاومة مستمرة ل ١٢٢ عاما. مقاومة تقول إن الشعب حي. ومن صبر ظفر فإنما النصر صبر ساعة ذلك لمن يريد النصر.