في آذار (مارس) 1977م نشر الصحفي دان مرجليت خبرًا عن امتلاك إسحاق رابين، الذي كان يومها رئيسًا للحكومة، وزوجته ليئا حسابًا بالدولار الأميركي في مصرف (ناشونال بنك) الأميركي، وبقي هذا الحساب مُدارًا خلافًا للتعليمات الصارمة، التي كانت مفروضة في كيان الاحتلال في تلك المدة بشأن استخدام وفتح حسابات بالعملة الصعبة، إذ كان يفترض برابين وزوجته إغلاق الحساب المذكور الذي كان مسموحًا لهما بإدارته، عندما كان رابين سفيرًا في واشنطن، حتى نهاية مهمته هناك في عام 1973م.
كان الخبر كافيًا وقتها لإثارة عاصفة في كيان الاحتلال، بنى عليها اليمين الإسرائيلي تحت قيادة مناحيم بيغن في حينه مسارًا سياسيًّا، مستغلًّا الأزمة الوزارية والائتلافية في حكومة رابين، واضطر رابين في ظل موقف صارم من المستشار القضائي للحكومة آنذاك أهرون براك إلى إعلان بعد شهر واحد فقط من نشر الخبر استقالته من رئاسة الحكومة، والالتزام بعدم الترشح على رأس قائمة حزب العمل، وانتقال القيادة إلى شمعون بيرس الذي خسر الانتخابات، ما أدى في نهاية المطاف إلى حدوث الانقلاب الأكبر في السياسة الإسرائيلية كلها، وصعود اليمين إلى الحكم، وقدوم مناحيم بيغن.
مظاهر الفساد وطغيان المال السياسي، واختفاء الحدود بين المال والسياسة في كيان الاحتلال كانت نتيجة حتمية لانتقال الكيان من نظام اقتصادي تتحكم به الدولة كليًّا، وفق المنظور الاشتراكي الديمقراطي الذي حمله وطبقته الحركة العمالية حتى عام 1977م؛ إلى نظام "المبادرة الحرة"، وتراجع تدخل الدولة في الاقتصاد، وبدء عمليات خصخصة الشركات القومية والوطنية التي أطلقها (ليكود) منذ توليه الحكم عام 1977م.
وعلى مدار سنوات حكم بيغن إلى حين اعتزاله الحكم بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982م، ثم حكم إسحاق شامير الذي استمر حتى عام 1992م؛ كان كيان الاحتلال يخطو بخطوات واثقة نحو اقتصاد ليبرالي ورأسمالي بكل ما تعنيه الكلمة من تكوّن لمراكز قوى اقتصادية، ورجال أعمال وأرباب مصالح اقتصادية كبرى، وكان طبيعيًّا في هذا الصدد أن يرافق الأمر ظهور "وسطاء" لإتمام صفقات هائلة داخل الكيان وخارجه، ولكن مع المحافظة على الأقل في الخطاب العام على "أصول طهارة المعايير"، وعدم التربح على حساب مصالح الدولة أو المال العام، لاسيما أن الحركة العمالية كانت لا تزال تتحكم بالدولة العميقة، مع انتقال الحكم السياسي إلى اليمين.
لا يزال قسم من مستوطني قطاع غزة والمستوطنين في الضفة الغربية المحتلة يتمسكون بالقول: "إن شارون نفذ عملية الانسحاب من قطاع غزة وتفكيك المستوطنات فيها عام 2005م، ليس لشيء سوى محاولة لفت الأنظار عن التحقيقات التي رافقته وولده عمري لضلوعهما في ملفات فساد وتربح غير شرعية وخطيرة، بعضها يتعلق بتلقي رشى من رجل الأعمال النمساوي مارتن شلاف، أحد مالكي (أوزيسيس) في أريحا، وبعض آخر بالحصول على أموال لنجله عمري تحت ستار توظيفه مستشارًا في شركة رجل الأعمال دافيد آبل، لتغطية مصاريف الحملة الانتخابية الداخلية لشارون داخل (ليكود) عام 2001م، وتلقي أموال بصورة غير شرعية من أحد أصدقاء شارون منذ أيام حرب النكبة، ويدعى سيريل كيرن".
وفي عام 2006م تولّى إيهود أولمرت رئاسة الوزراء، تورّط أولمرت كذلك بقضايا فساد تعود بداياتها لعام 1995م، عندما كان رئيسًا لبلدية الاحتلال في القدس المحتلة، ووزيرًا للتجارة والصناعة في حكومة نتنياهو الأولى (1996م ـ 1999م).
لكن أولمرت بلغ أوج نشاطه السياسي في حزب شارون (كديما) الذي انشق عن (ليكود)، وقد اضطر أولمرت بعد ثلاث سنوات من توليه رئاسة الحكومة إلى الاستقالة من منصبه، مع بدء التحقيق في ملف تلقيه مبالغ مالية من الثري الأسترالي موشيه تالينسكي، أدين أولمرت في نهاية المطاف وحكم عليه بالسجن الفعلي عام 2016م، وأطلق سراحه في حزيران (يونيو) الماضي.
استطلاعات جديدة للرأي العام في كيان الاحتلال تظهر أن أغلب الإسرائيليين لا يؤمنون بأن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بريء من الشبهات التي تحوم حوله في ثلاث قضايا فساد مختلفة تحقق فيها الشرطة الإسرائيلية، وتتصل بتلقي الرشى وخيانة الأمانة العامة.
وأظهر استطلاع للرأي نشرته القناة الإسرائيلية الأولى أن 67 من المائة من الذين شاركوا في الاستطلاع بينوا أنهم لا يعتقدون أن نتنياهو بريء من الشبهات التي تحوم حوله، مقابل 33 من المائة فقط أعلنوا أنهم يؤمنون ببراءته.
حالة من الاستقطاب في الرأي العام الإسرائيلي، بشأن اتهامات نتنياهو للإعلام واليسار بالسعي إلى قلب نظام الحكم وإسقاط حكومته وحكم اليمين، وبحسب استطلاع القناة الأولى أجاب 47 من المائة من الإسرائيليين الذين شاركوا في الاستطلاع بأنهم يوافقون على مقولة نتنياهو عن سعي اليسار والإعلام إلى إسقاط حكومة نتنياهو وقلب نظام الحكم، وبين 53 من المائة منهم أنهم لا يوافقون نتنياهو الرأي في هذا الموضوع.
مع ذلك ومع اعتقاد الأغلبية بأن نتنياهو غير بريء من الشبهات التي تحوم حوله قال 46 من المائة من الإسرائيليين: "إن التحقيقات معه دوافعها سياسية"، وقال 35 من المائة منهم: "إن هذه التحقيقات مهنية ونزيهة".
فساد الطغمة السياسية الحاكمة في كيان الاحتلال لم يكن في يوم من الأيام عائقًا أمام استمرارهم في الماضي ومعاودة الكرة بعد الاستقالة أحيانًا، ويبدو رئيس الحكومة الحالي المتوج نفسه "آخر ملوك (إسرائيل)" مصرًّا على ربط سقوطه بسقوط "الدولة" ورفض الاستقالة، أيًّا كانت العواقب، فهل تدفع الظروف السياسية "عنيد تل أبيب" إلى ارتكاب حماقة جديدة تنسي الشارع فساده وعناده؟