فلسطين أون لاين

بمشاريع صغيرة صنعوا "كينونة اجتماعية"

ذوو إعاقة يمزقون سجلات "العوز" وينافسون في سوق العمل

...
  • ما ينقص عصام يكمله إبراهيم في التعامل مع الـ"CNC"
  • من "بقالة بيع المواد الغذائية".. منى توفر ثمن الدواء لوالديها المسنين
  • الإعاقة البصرية لم تمنع "نرجس" محيسن من فتح مركزٍ تعليمي
  • يبلغ عدد ذوي الإعاقة في قطاع غزة نحو 48 ألفًا
  • الغرة: قلة مشاريع دعم دمج ذوي الإعاقة في المشاريع الاقتصادية

غزة/ يحيى اليعقوبي:

اصطفت العربة الكهربائية أمام الورشة، نزل منها الشاب إبراهيم إرحيم يثني قدميه ويتقدم بخطى متثاقلةً؛ أمسك عكازه وسار بخطواتٍ بطيئة حذرةٍ نحو الداخل، في الجزء الأيمن من مدخل الورشةِ المواءمة لذوي الإعاقة يجلس رفيقه عصام الشوا على مكتبه لتصميم الطلبات وإرسالها إلى الحاسوب المتصل بماكنة "CNC".

مر من باب بين الحاصلين نحو الماكنة لإكمال مهمة تنفيذ التصميم والحفر والرسم على الخشب في مشروعهما الذي يعملان به والمسمى CNC" Creative"، وهما من ذوي الإعاقة الحركية.

اختار عصام جانب التصميم لكونه لا يستطيع الوقوف طويلًا على قدميه نتيجة إعاقته ومعاناته من الضمور، في حين يعمل إبراهيم على الماكنة لكونه أفضل حالًا من رفيقه ويستطيع الوقوف مدة أطول رغم صعوبة حركته المتثاقلة، وهكذا أكمل الاثنان ما ينقصهما، وكأنهما بهذا الاتحاد جسد واحد يكمل أحدهما الآخر.

ما إن أعطاها الأمر، انطلقت الآلة في ثقب اللوح الخشبي وحفره، والدوران بحركات سريعة، يحرك إبراهيم يديه بجانب "إبرة" الماكنة السريعة وحولها وهو يزيل الغبار الناتج عن الحفر، وكأنهما يعرفان أدوارهما.

انتهت الماكنة من حفر كلمة في بروازٍ خشبي أصبحت تفاصيلها واضحةً: "في بيتنا عريس"، أخيرًا بعد مشقة عمل اسند ظهره لكرسي الحاسوب ومرر أصابعه على جبهته وألقى قطرات العرق للأسفل.

أطلق تنهيدة عميقة وكأنه بلغ القمة، لأنه قهر نظرة الشفقة من المجتمع يحرك أحباله الصوتية بعدما سكن صوت الماكنة "تخرجت من تخصص إدارة أعمال باللغة الإنجليزية، وكان القاسم المشترك بيني وبين عصام أننا لا نريد أن كون في سجلات الشؤون الاجتماعية؛ نريد أن نخلق معادلةً جديدة باقتحام سوق العمل الفلسطيني بشيء جديد قادر على المنافسة فاخترنا حفر الخشب بواسطة الحاسوب، فتلقينا تدريبًا".

تقفز أمامه صورة من بدايات العمل "أتدري؛ أصابنا الإحباط فكانت نظرات الزبائن تتركز على عكازينا يتساءلون: كيف سنعطي المنتج بهذا الوضع والإعاقة!؟، لكننا مع الإصرار كسرنا الصورة النمطية والهاجس بيننا وبين السوق المحلي، وصنعنا الأمل من زقاق الألم ورحم المعاناة، وأصبحنا أنموذجًا لذوي الإعاقة تأخذنا المؤسسات الدولية كإحدى أفضل قصص النجاح في التمكين الاقتصادي لأننا مستمرون بالعمل منذ سبع سنوات".

يكتف إبراهيم يديه ويطلق العنان لكلماته بكل ثقة بينما استند عصام للحائط حتى وصل لعربته وغادر الورشة "الأهم من الدخل الاقتصادي هو الكينونة الاجتماعية، لم نعد نشعر أننا عالة على المجتمع، وقتنا مليء بالعمل نستقبل العمل اليومي، نأتي هنا على الثامنة صباحًا ونغادر مغربًا، صديقي عصام تزوج ورزقة بطفلة سماها ندى (ثلاثة أعوام) وأنا أستعد للزواج، وفرضنا احترامنا على المجتمع المحيط، فيتعاملون معنا كأشخاص منتجين".

عمل ورعاية

الساعة العاشرة صباحًا وعقربها يقف على المنتصف، تتنقل منى خطاب (52 عامًا) داخل بقالتها لبيع المواد الغذائية، بحركةٍ متثاقلة غير ثابتة تحمل يدها اليمنى بصعوبة من جهةٍ لأخرى، تضم علبة البسكويت بين يدها اليسرى لوضعها داخل الرفوف، تعاني شللا نصفيًا باليد والقدم اليسرى، على مدخل البقالة يجلس والدها الثمانيني، وفي زاوية بعيدة ومنفصلة عن البقالة غير مرئية للزبائن تتمدد والدتها عليه وبقربها أكياس الدواء، توازن منى بين رعاية والديها المسنين وبين البيع، تبتسم للحياة، وتنخرط فيها.

كفراشة تحلق بين الأزهار تملأ الابتسامة أركان وجهها، تفتح قلبها لنا "حصلت على المشروع من خلال برنامج التمكين الاقتصادي، ومن خلاله أصبحت أعيل والدي المسنين فأبي يعاني من انسداد بالشرايين ويحتاج ستة أنواع من الأدوية وأمي أصيبت بجلطتين وتعاني ضعفا بالنظر وتحتاج ادوية، فمن ثمن بيع المواد الغذائية أشتري لهم الدواء".

تغيرت حياتها للأفضل فتعرفت على التجار وعلى مجتمع كامل، يحترمها الجيران، زادت ثقتها بنفسها وأصبح هناك بصيص أمل تنظرُ من خلاله للمستقبل الذي كان في السابق مجهولاً، خاصة أن البقالة موجودة بمنطقة صناعية (جنوب مدينة غزة)".

تأخذها ذاكرتها لحياة العزلة قبل فتح المشروع "كنت سجينةً الإحباط والجدران، معزولةً عن العالم، قبل أن أنضم لفريق كرة السلة لذوي الإعاقة (..) الرياضة أبهجت الحياة بداخلي وكسرت حاجز الخجل".

انشغلت منى بتعبئة أغراض اشتراها عدة رجال دخلوا بقالتها بظرفٍ بلاستيكي، ثم ذهبت وقامت بغلي القهوة لوالدها الذي يجلس على كرسي بلاستيكي خارج البقالة يرفه عن نفسه، ورجعت لإعطاء حبة الدواء لوالدتها، كل ذلك كان بخطواتٍ بطيئة.

حينما يأتي موعد التمرين الرياضي لكرة السلة ورغم انشغالها بالعمل بمشروعها، تطلب من أحد أبناء أخوتها الجلوس بالبقالة وتذهب للمشاركة في التمارين والمباريات، تعيش أجواء المرح وتخرج من ضغط العمل، تتجدد لديها شحنة جديدة من الطاقة والهمة لتعود لوالديها بروحٍ مفعمة بالحيوية.

كومة مشاعر عالقة في صوتها عن ذلك "سعيدة أني أجعل أبي وأمي يرون الشارع والناس، ولا يعيشون حياة كبار السن معزولين بين الجدران، فيجلسون مع الجيران وزبائن البقالة".

نرجس تحقق حلمها

هنا، لم تمنع الإعاقة البصرية نرجس محيسن (32 عامًا)، من تحقيق حلمها بتأسيس مركزٍ تعليمي يحقق استقلالاً ذاتيًا في دخلها الشخصي، وكذلك صنع مكانة اجتماعية لها، ومساعدة أهلها، إضافة لتعويض غياب مركز تعليمي بمنطقة سكنها بحي الشجاعية بمدينة غزة.

بحاصلٍ صغيرٍ داخل منزلها، انطلق المشروع وأبصر الحلم من رحم إعاقتها عام 2019، سجل فيه بالبداية 30 طالبًا، يتابعهم مدرسٌ وحيد، كانت تساعده في الشرح النظري كونها حاصلة على بكالوريوس لغة عربية.

أعلى المركز الجديد، يلفتك الاسم "مركز النرجس التعليمي"، بداخله تجلس مديرته نرجس محيسن، ورغم إعاقته البصرية، إلا أنها تحفظ أسماء وصوت جميع الطلاب، وتتابعهم، وكذلك تتابع المدرسين.

ابتسامة رضا ترقد على ملامحها تعبر عن رضاها بما حققته "حبي للتعليم وحاجة المنطقة إليه دفعني لفتح المشروع، في البداية كان العدد قليل، لكن بمساعدة الأهل، تغلبت على العقبات والتحديات وأبرزها أزمة "كورونا" التي عطلت المشروع ثم عاد للاستمرار 2021 وحققت نجاحًا".

اليوم كبر المركز، وزاد عدد المعلمين إلى أربعة، يعملون بشكل دائم إضافة لآخرين يعملون بشكلٍ جزئي، ووصل عدد الطلبة المسجلين لنحو 80 طالبًا.

أشياء كثيرة أضافها المشروع لها، يتحرك صوتها هنا "أصبح لدي استقلالية في الدخل، أساعد أسرتي، الكل يناديني بـ "المديرة"، فنجاح مشروع لشخص من ذوي الإعاقة أمر مهم بالنسبة للمجتمع".

لا تمنعها إعاقتها البصرية من متابعة المركز وكذلك المشاركة بالشرح للطلبة، "صحيح أني لا أراه بشكل جيد كون نسبة الرؤية لدي لا تزيد عن 25%، لكنني بنيت علاقة مع المدرسين أني أراقب كل شيءٍ والعمل الدؤوب والأمانة، وأعرف شؤون الطلبة وأراقب مستواهم وتحصيلهم المدرسي".

أكثر ما أسعدها هو تطويرها للمكان، وأصبح عبارة عن أربع غرف إضافة لغرفة الإدارة، وإحداثه نقلة نوعية في التعليم بالمنطقة.

دعم مجتمعي

لا يوجد أرقام حول أعداد الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يديرون مشروعات صغيرة في قطاع غزة، رغم أن هذه المشروعات تلقى الدعم المجتمعي في غزة.

لكن وفق معطيات وإحصائيات فلسطينية، يبلغ عدد الأفراد ذوي الإعاقة في فلسطين نحو 93 ألفا، ويشكلون 2.1 بالمائة من مجمل السكان، فيما يبلغ عدد ذوي الإعاقة في قطاع غزة نحو 48 ألفًا، أكثر من خمسهم من الأطفال، بينما تشير التقديرات إلى أن أعداد ذوي البتر تبلغ ألف شخص.

بحسب ظريف الغرة وهو رئيس نادي السلام لذوي الإعاقة، يعتبر الحق في العمل من أهم الحقوق التي كفلها القانون والتي من خلالها يتمكن الشخص ذو الإعاقة من الاندماج في المجتمع، مؤكدًا، أن المشاريع الصغيرة تجعلهم قادرين على تحقيق الاستقلال الاقتصادي لهم ولعائلاته وتساهم في كسر فجوة البطالة في صفوف الأشخاص ذوي الإعاقة، وخلق فرص عمل جديدة.

لكن لنجاح عملية الدمج المهني والتشغيلي للأشخاص ذوي الإعاقة، كما شدد الغرة، لابد من بناء قدرات الشخص ذو الإعاقة نفسه وتأهيليه للانخراط في سوق العمل، بحيث تكون بيئة العمل صديقة ومناسبة له، وتقديم الدعم والإرشاد لهم في المشاريع الصغيرة لتجاوز التحديات والعقبات.

ويعتقد أن حجم دمج ذوي الإعاقة بالمشاريع الاقتصادية لم يصل للمستوى المطلوب، نتيجة الحصار والوضع الاقتصادي الصعب في القطاع الذي يؤثر على ذوي الإعاقة كونهم جزء من المجتمع، بالإضافة لقلة المشاريع الداعمة نحو دمج ذوي الإعاقة في المشاريع الاقتصادية.

إلا أن الخبير الاقتصادي محمد نصار، يوضح أن نوع الإعاقة ودرجتها يلعب دوراً كبيراً في تحديد المشروع الذي يستطيع الشخص ذوي الإعاقة العمل على إنشائه، إضافة إلى أن الوزارات والمؤسسات الحكومية تقدم من خلال قانون حقوق المعوقين الفلسطيني رقم 4 للعام 1999، التسهيلات والإعفاءات من الضرائب والرسوم، مما يساعد ذوي الإعاقة على إطلاق مشاريعهم الصغيرة.

ولا تزال الإعاقة، وفق نصار، تمثل حاجزاً أمام الأشخاص ذوي الإعاقة وتمنع غالبيتهم من الانطلاق والاندماج في المجتمع وسوق العمل، وهنا يأتي دور الوزارات المختصة في توفير التدريب والتأهيل لهم حسب نوع ودرجة الإعاقة وتزويدهم بالمهارات الإدارية والفنية والمعرفة القانونية، إضافة لدور الأسرة المساند في ذلك.

وفي هذا السياق، أشار إلى أن وزارة التنمية الاجتماعية قامت خلال النصف الأول من العام 2022م بتنفيذ مشروع لدعم مشاريع انتاجية لعدد 67 من الأشخاص ذوي الإعاقة وعائلاتهم بتمويل من الهلال الأحمر القطري، حيث عمل البرنامج على دمجهم وتقديم الاستشارات المجانية لهم لمدة عام، معتبرًا، أن مثل هذه الإجراءات والمتابعة تساعد في دمج الأشخاص ذوي الإعاقة في السوق.

إضافة لذلك فإن الأشخاص ذوي الإعاقة بحاجة إلى توجيه للتخصصات التي يدرسونها وتوفير رزمة من الخدمات التي تمكنهم في المستقبل من إطلاق مبادرات ريادية تساعدهم في إدارة مشروعاتهم الخاصة وتمكنهم من الاندماج في سوق العمل وتوفير عيش كريم لهم ولأسرهم. بحسب نصار.

المصدر / فلسطين أون لاين